غزة: صيدليات خاوية فوق أنقاض الخيام

غزة: صيدليات خاوية فوق أنقاض الخيام

في شارع صلاح الدين وسط قطاع غزة، الذي كان يومًا يضج بأصوات الحياة، لا يُسمع اليوم سوى صوت الزجاج المكسور تحت الأقدام. عند مدخل صيدلية "الرحمة"، يقف أحمد بكر، صيدلي في بداية الثلاثينيات من عمره، يحاول أن يُنقذ ما تبقى من حلمٍ ورثه عن والده. 

الصيدلية، التي دمّرتها قذيفة قبل بضعة أيام، لم تعد سوى جدارين متآكلين ورف دواء مُحطم. ينبش أحمد بين الأنقاض بيدٍ مرتعشة، ثم يسحب علبة مشوهة ويتمتم: "وجدت بعض المضادات الحيوية وأدوية الضغط، هذا قد ينقذ حياة شخص في غزة".

في الخلفية، يظهر الكثير من النازحين معظم يعاني من مشكلات صحيّة؛ منهم أطفال يألمون من مشكلات مَعوية بسبب تلوث المياه، جرحى على عربات كارو، وأمهات يحملن رُضّعًا يبكون من الجوع أو الحمى. 

إحدى النساء تقترب من بكر وتسأله بصوت مبحوح: "هل عندك حليب أطفال؟ أو حتى مسكنات؟". يحدّق إلى الرفوف شبه الخاوية، ثم يخرج من جيبه علبة باراسيتامول اشتراها لزوجته المريضة: "خذي هذه، لا تكترثي بخصوص الثمن".

مع تدمير الغالبية العظمى من المرافق الصحية، لم يعد للصيدليات في غزة شكلٌ ثابت أو عنوانٌ معروف. في المخيمات العشوائية التي باتت تأوي مئات الآلاف من النازحين يعيشون في خيام من قماش وبلاستيك، ظهرت صيدليات بدائية لا تشبه ما كان يعرفه الناس قبل الحرب. 

بعضها مجرد زوايا داخل خيمة، أو طاولة صغيرة مغطاة بشادرٍ بلاستيكي تحجب أشعة الشمس، لا يتوفر فيها إلا أقل القليل: بعض أدوية الحرارة، أشرطة إسعاف، وحقن طوارئ تُعطى بلا تبريد أو تعقيم مثالي. ورغم محدودية الأدوات، باتت هذه "الصيدليات الطارئة" خط الإنقاذ الأول للمرضى في كثيرٍ من الأحيان.

في أحدّ الأزقة الرملية داخل مخيم عشوائي بمنطقة المواصي غرب خان يونس جنوب قطاع غزة، تنتصب خيمة بلاستيكية رثة، تتدلّى على مدخلها يافطة مكتوبة بخط اليد على كرتونة ممزقة: "صيدلية". لا أبواب ولا رفوف، فقط طاولة مهترئة عليها حفنة أدوية متناثرة، أغلبها منتهٍ أو بلا غلاف. 

في المشهد يظهر نجيب مهدي صيدلي خمسيني، يُمسك بيد طفل محموم ليُعطيه حقنة مضاد حيوي بمهارة لافتة، فيما ينتظر في الزاوية عدد من النساء دورهن لجلسة تبخيرة، يُشغّل جهازًا كهربائيًا صغيرًا يتغذى على بطارية سيارة.

 "لا نملك سوى ما نعرفه"، يقول مهدي، "لكن حين يُشفى طفل من لدغة جرذون أو يهدأ سعال رضيع، نشعر أننا لا نزال في مهنة إنقاذ، حتى لو كنا نعمل في خيمة من نايلون بإمكاناتٍ معدمة".

على امتداد قطاع غزة، تحوّلت الصيدليات من مؤسسات تجارية إلى نقاط إسعاف في كثيرٍ من الأحيان، تقاتل للبقاء وسط القصف والحصار. بعد واحد وعشرين شهرًا من الحرب، يُظهر تقرير اتحاد الصيادلة الفلسطينيين (يونيو 2025) أنّ 87% من الصيدليات في غزة تعرّضت لأضرار جسيمة، منها ما دُمّر كليًا، ومنها ما لم يعد صالحًا للاستخدام.

وعلى الرغم من ذلك، ما تزال مدينة غزة تضمّ عددًا من الصيدليات التي تواصل العمل بموارد شحيحة، في محاولة لتوفير الأدوية الأساسية للسكان وسط ظروف معيشية قاسية، ونقصٍ حاد في الإمدادات والمعدات.

مع شُح الأدوية الأساسية وتراجع توريدها، أصبحت كثير من الصيدليات تعتمد بشكل أكبر على بيع مستلزمات الصحة الشخصية والعناية، التي لا تتطلب شروط تخزين معقدة، وذلك للحفاظ على استمرار العمل وسط الأزمة.

غير أنّ هذا الانهيار البنيوي ترافق مع اختفاء شبه تام للأدوية الحرجة. منظمة الصحة العالمية تؤكد في تقريرها (مايو 2025) أنّ 92% من أدوية السرطان لم تعد متوفرة، 80% من الأنسولين اختفى من الأسواق، و100% من لقاحات الأطفال غير متاحة منذ أشهر.

وفي ضوء ذلك، يحذر خبراء قانونيون من أن هذا الحرمان المنهجي من الأدوية والرعاية الصحية قد يُصنَّف، بموجب القانون الدولي الإنساني، كجريمة "إبادة بوسائل غير مباشرة"، عبر استخدام التجويع الطبي كأداة حرب. فاستهداف المنشآت الصحية وعرقلة إدخال الدواء لا يمسّ فقط حقّ السكان في الحياة، بل يُعدّ خرقًا لاتفاقيات جنيف التي تضمن الحماية للمدنيين والكوادر الطبية أثناء النزاعات المسلحة.

وبات السكان يعتمدون على بدائل قاتلة، مكملات غذائية مخصصة للأطفال دون الخامسة يتناولها البالغين، عسل ملوث بدل المضادات الحيوية، مشروبات عشبية بدل أدوية الضغط، ما ساهم في ارتفاع نسبة الوفيات 40% بحسب تقرير اليونيسف.

اضطرت هذه الظروف الصيادلة إلى إدارة مخزونهم النادر بحذر شديد، مستخدمين دفاتر سوداء لتسجيل ديون المرضى الذين يأخذون الدواء دون دفع فوري، في ظلّ ظروف اقتصادية قاسية وصعوبة الحصول على الأموال.

في دير البلح وسط قطاع غزة، كان الصيدلي كمال سالم (52 عاماً) يحفر بيديه بين الركام بحثًا عن ثلاجة أدوية دفنت تحت أنقاض صيدليته. وجدها أخيرًا، محطمةً لكنها لا تزال تحوي جرعات أنسولين. "هذه قد تنقذ حياة ثلاثة مرضى ليومين أو ثلاثة"، قال وهو يلفّ الأدوية بقطعة قماش مبللة لحمايتها من حرارة الصيف التي تجاوزت 35 درجة.

لكن مع انقطاع الكهرباء بشكلٍ دائم منذ اندّلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، أصبحت ثلاجات الأدوية مجرد صناديق معدنية فارغة، إلا مَن استطاع توفير نُظم طاقة شمسية لتشغيلها.

تُشير تقديرات محليّة إلى أنّ 60% من الأدوية الحساسة، ومنها الأنسولين واللقاحات، فسدت بسبب الحرارة.  بعض الصيادلة خزنوا الأدوية في أوانٍ فخارية مدفونة تحت الأرض، في محاولات بدائية لتفادي التلف.

النكبة الدوائية في غزة لا ترتبط بالقصف فقط، بل بما وصفه تقرير دولي بـ"الحصار الطبي". السلطات الإسرائيلية تمنع دخول المواد الأولية لتصنيع الأدوية محليًا، مثل الباراسيتامول، بحجة "الاستخدام المزدوج". حتى الضمادات الطبيّة البسيطة تخضع لفحص أمني يستغرق فترات طويلة وبعضها تظلّ عالقة في المعابر حتى تفسد.

في السوق السوداء التي انتشرت في غزة مع انهيار المنظومة الصحية، قفز سعر علبة البنسلين من دولارين إلى 75 دولارًا، فيما يعتمد 95% من السكان على المساعدات للحصول على أي دواء، وفقًا لتقرير صادر عن الأونروا في يوليو 2025.

ونتيجةً لذلك، أصبحت الصيدليات تعاني من اقتصادٍ هش يعاني من تقلّبات مستمرة، إذ تحاول الموازنة بين تلبية الطلب وارتفاع أسعار الأدوية، وسط غياب دعم رسمي وارتفاع كلفة التشغيل.

وسط هذا الفوضى، لم تعد الأدوية تُباع في صيدليات مرخصة، بل على بسطات عشوائية يديرها أشخاص عاديون، ليسوا صيادلة ولا يمتلكون أدنى خبرة طبية. يعرض هؤلاء الباعة أدوية مهربة، منتهية الصلاحية، أو مزورة بأسعار مرتفعة، مستغلين الحاجة المُلحة للمرضى، مما يزيد من المخاطر الصحية ويحول حياة كثيرين إلى رهينة في ظل غياب الرقابة والتنظيم.

"نحن نعمل على شفا الموت" تقول مها الشرفا، منسقة طبية في منظمة "أطباء بلا حدود"، تردف وهي تختصر المأساة: "غزة تجاوزت تعريف الكارثة الإنسانية إلى شيء لم يُعرف بعد في القواميس الطبية، نحن أمام إبادة صيدلانية ممنهجة".

يعمل الصيادلة تحت هذه الظروف ولسان حالهم يقول: "نحن نعمل في زمن لم يعد الموت فيه مفاجأة… بل أن تظل على قيد الحياة هو المعجزة الوحيدة".