يركبُ هيثم محمد (12 عامًا) عربة يجرّها حمار، يعلوها بضعة أكياس، يجوبُ فيها شوارع محافظة شرق خانيونس جنوب قطاع غزة، بحثًا عن مخلّفات البلاستيك والنحاس وغيرها من المواد التي يجمعها من حاويات النفايات؛ ليبيعها إلى التجار مقابل بضعة شواقل تمكّنه من توفير قوتِ أسرته.
يقول هيثم وهو يتيم الأب ويُعيل إخوته من هذا العمل الذي يمتهنه منذ عام تقريباً، "استغل كل دقيقة من استئجار العربة، حتى أجمع أكبر قدرًا من البلاستيك والنحاس والخردة التي تصلح للبيع".
الطفل هيثم هو واحد من أصل 413 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين (10-17 عاماً) يعيشون في قطاع غزة، %0.9 منهم منخرطون في أعمال مختلفة. يستقطع من أجرته اليومية مبلغ عشرة شواكل يدفعها ثمن لإيجار العربة التي تقله، وهو ما يُقدِّره بثلث المبلغ الذي يجمعه يوميا من التنقيب في النفايات، ويتراوح الأجر ما بين (10-20 شيكل يومياً).
ويضطر بعض الأطفال الذين تُعاني أسرهم فقرًا مدقعًا وظروفًا اقتصادية مزرية، إلى امتهان البحث في النفايات عن مُخلّفات البلاستيك، والنحاس، والحديد بالإضافة إلى الخردة وغيرها مما تقبل المصانع أو التجار شرائه منهم ببضعة شواكل، وذلك بعد تفشي الفقر بين سكان القطاع بنسبةٍ وصلت إلى 81.8% وفقًا لمؤشراتٍ دولية.
ويشكِّل عامل الأطفال في التنقيب بين النفايات مخالفة مزدوجة، إذ إن عمل الأطفال دون سن الثامنة عشرة ممنوع بموجب القانون، فكيف إذا كان هذا العمل في النفايات التي تزيد فيها المخاطر الصحية على هؤلاء الأطفال.
ويحظر قرار بقانون رقم (19) لسنة 2012م بشأن تعديل قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004م، في المادة (4)، تشغيل الأطفال أو استخدامهم أو تكليفهم بأية أعمال أو مهن خطرة أو غيرها من الأعمال والمهن التي تحددها وزارة العمل ومن شأنها إعاقة تعليمهم أو إلحاق الضرر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسية، بما في ذلك العمل لدى الأقارب من الدرجة الأولى.
وجاء في نص المادة (43) من قانون الطفل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2004، بأنه يمنع استغلال الأطفال في التسول كما يمنع تشغيلهم في ظروف مخالفة للقانون أو تكليفهم بعمل من شأنه إعاقة تعليمهم أو يضر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسية.
كما جاءت المواد (93, 94, 95) من قانون العمل الفلسطيني تنصّ على أنّه يُحظر تشغيل الأطفال الأحداث دون سن الخامسة عشر، ويسمح بعمل الأطفال في سن (15-17) عامًا بشروط معينة، منها ألا تكون هذه الأعمال خطرة أو ليلية أو في أماكن نائية، وأن تكون ساعات العمل قصيرة، ويتوفر كشف طبي للأطفال كل 6 أشهر.
بعض من هؤلاء الأطفال، يستقلون عربات تجرها حمير وأحصنة، وآخرون تجدهم يجرّون عربة يدّ، وهناك مَن يحملون الأكياس على ظهورهم ويتجولون بها بين الحاويات وفي الشوارع العامة، والداخلية للبحث والتنقيب عما يصلح للبيع.
أحمد عمر (14 عامًا) لا يختلف حاله كثيرًا عن هيثم، يقطن في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة، يخرج فجرًا ويقضي يومه يجوب شوارع مخيمات المحافظة الوسطى وهو يعلّق الأكياس الملأى بالبلاستيك على عربته.
يقول: "أخرج والناس نيام؛ حتى لا يراني أحدًا وأنا أبحث بالقمامة عن شيء استرزق منه. أعيل أسرتي المكونة من 7 أفراد، لا نريد أن نمد أيدينا لأحد؛ لذلك أبحث عن أي فرصة أوفر بها ما يكفي لتوفير قوت يومنا".
يعيش أحمد في بيتٍ صفيحي متهالكًا يغطيه بالنايلون، ويخرج من منزله بملابس نظيفة لا يشوبها الغبار، وعن سرّ ذلك يقول: "ذات يوم كنت أختبئ من بعض المارّين في الشوارع وقت تنقيبي عن البلاستيك إلى حين أوقفني أحدهم وعرِف قصتي فأصبح يجمع الملابس النظيفة التي لا تحتاج بعض العائلات ويقدمها لي".
وعن عمله في جمع مخلّفات البلاستيك، قال إن بعض المواطنين يُصنفون البلاستيك في أكياس مختلفة عن النفايات الأخرى؛ ما يسهل عليه العثور عليه. فيما تُشكِّل مخلّفات البلاستيك من مجموع النفايات الصلبة الذي يُقدَّر بـ 1.595 طنًا/اليوم، ما نسبته 14.0%.
هؤلاء الأطفال الذين يقضون نهارهم في العمل بين النفايات، يواجهون خطرًا على صحتهم الجسدية والنفسية على حدٍ سواء، دون أن يدركوا حجم المخاطر التي تعترضهم. في هذا الإطار يُشير المختص البيئي محسن أبو رمضان، إلى أن هناك خطرًا شديدًا ينعكس على البيئة وصحة الأطفال والشباب الذين يعملون في تنقيب النفايات.
ويؤدي التنقيب في النفايات إلى تقليل مناعة الأفراد العاملين في هذا المجال خاصة أنهم غير متخصصين ولا يتبعون إجراء السلامة اللازمة. كما يزيد الأمر من مخاطر إصابتهم بالأمراض وما إلى ذلك من انعكاسات سلبية على البنية الصحية والجسمانية لهم، إذ تتأثر الأجساد على المستوى المؤقت وطويل الأمد.
ويرى أبو رمضان أن هناك انعدامًا في وجود الرقابة في قطاع غزة على عمالة الأطفال والشباب في التنقيب عن الخردة والبلاستيك وبعض الأدوات التي يستخدمونها للبيع، ظنًا منهم أنها تشكل مصدرًا للدخل.
ويلاحظ وجود أعداد ليست قليلة تعمل في الخردة ومجارش البلاستيك، وهي غير مراقبة ولا محددة، مع عدم المعرفة التامة بمن هو رب العمل لديهم ولمن تعود هذه الأموال وما هي حصتهم التي ستكون حصة زهيدة، بحسب أبو رمضان.
وقال: "تنشط ظاهرة عمالة الأطفال المرفوضة في العالم، في البلدان الفقيرة نتيجة البطالة وقلّة فرص العمل والوضع الاقتصادي المتردي".
وطالب أبو رمضان أن يكون هناك رقابة من البلديات حول موضوع التنقيب في النفايات خاصة على الأطفال. كما دعا إلى طرح برنامج تربوي وتنموي لاحتضان هذه الفئات الاجتماعية ومنعها من الانخراط في الأعمال الضارّة بيئيًا وصحيًا، وتوفير الحدّ الأدنى من مقومات العيش الكريم لهم، عن طريق إعادة تأهيلهم في مجالات عمل أخرى بعيدًا عن الأضرار والمخاطر البيئية والصحية.
بدورها، تواصلت "آخر قصّة"، مع مدير عام الصحة والبيئة في بلدية غزة، أحمد أبو عبدو، الذي أشار إلى أنَّ التنقيب عن البلاستيك وغيره في النفايات هو عمل فردي يقوم به بعض ملتقطي النفايات.
ويبلغ عدد العاملين في تنقيب النفايات داخل مدينة غزة فقط، وفقًا لأبو عبدو، حوالي 200 -250 شخصًا، ويتواجدون في مكبّ ترحيل النفايات وبعض الشوارع في ساعات متأخرة من الليل يجر معه عربة ويقوم بالنبش داخل النفايات للبحث عما تحتويه من أشياء ذات قيمة اقتصادية.
وقال أبو عبدو: "ليس من عمل البلدية متابعة الأعمال الفردية هذه ولكنها تقوم بمتابعة التجار أو الملتزم الثاني من سلسلة الاستفادة من النفايات أو الحِرف الصغيرة التي تقوم بشراء النفايات من ملتقطيها".
وتقول بلدية غزة وهي واحدة من أصل 25 بلدية موزعة على محافظات قطاع غزة الخمس، بترحيل 600 إلى 700 طن من النفايات يوميا، وتنقلها إلى مكبّ جحر الديك في الأطراف الشمالية للمحافظة الوسطى.
وعملياً، يقع الدور الرقابي على الجهات الحكومية المختلفة، واحدة منها هي وزارة العمل، التي توجهنا إليها بالسؤال عن دورها في الحد من عمالة الأطفال وبخاصة أولئك الذين يقومون بمهنة نبش النفايات.
يجيب شادي حلس، بأن دائرة الرقابة والتفتيش في وزارته تطبق قانون العمل الفلسطيني رقم 7 لسنة 2000 حيث أن المادة (93) تحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم سن الخامسة عشرة، بالإضافة إلى أن المادة (95) تحظر تشغيل الأطفال الأحداث في الصناعات الخطرة أو الضارة بالصحة، وكذلك الأعمال الليلية وفي الأماكن النائية البعيدة عن العمران.
وقال حلس في تصريحات صحفية: "معظم النباشين لا يوجد لهم صاحب عمل بل يجمعون القطع البلاستيكية ويبيعونها لمصانع إعادة التدوير على حسابهم الخاص"، مضيفاً "يكمن دور وزارة العمل الرقابي من خلال المتابعة مع الجهات الأخرى كشبكة حماية الطفولة التابعة للشؤون الاجتماعية".
وأكد أنه في حال ثبت وجود عمل الأطفال تحت يد صاحب العمل فسرعان ما يحظر تشغيلهم وتنفذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين ومنها إغلاق المنشأة التي يعملون بها.
ومن الواضح أن التعامل مع مشكلة تنقيب الأطفال في القمامة يتطلب جهودًا مشتركة من الحكومة والمجتمع المحلي والمنظمات غير الحكومية والمجتمع الدولي. ويفترض أن يتم العمل لإيجاد حلول فعالة ومستدامة لحماية حقوق هؤلاء الأطفال وتوفير مستقبل أفضل لهم.
التنقيب عن النفايات