تواجه العديد من النساء اللواتي يتحملن مسؤولية إدارة بيوتهن، ومنخرطات في أعمال ووظائف، صراعًا معقدًا نتيجة الضغوطات التي يفرضها واقع الموازنة بين الأعباء المنزلية وأعباء العمل.
وتُجبر الظروف الاقتصادية العديد من النساء في قطاع غزة على ممارسة أعمال مهنية وحِرفية ووظائف من أجل الإسهام في إعالة أسرهن أو تحسين الدخل، غير أن هذه الظروف مجتمعة تشكل عبء نفسيا واجتماعيا على هؤلاء النساء، لاسيما أنهن يضطررن لدفع ضريبة مُضاعفة من أجل تكامل دورهن كأمهات و ربّات بيوت.
نورة محمد (36 عامًا) تعيش صراعًا يوميًا ما بين مسؤولية رعاية أبنائها الأربعة الذين تتعدد مراحلهم العمرية، وبين عملها في مهنة الصحافة والإعلام التي يزيدها شقاءً أنها في بيئة غزة المحتدمة بالصراعات الأمنية على مدار الوقت.
هذا تمامًا ما حاولت نورة شرحه عندما قالت، "طبيعة عملي الصحفي مرهقة ومجهدة للغاية، أضطر أن أكون على اطلاع مستمر لكل مستجدات الأخبار السياسية، وفي الأيام التي يحدث فيها تصعيد عسكري إسرائيلي أضطر للخروج للتغطية الميدانية وترك أطفالي وقت الخطر، فيزداد قلقي عليهم وأشعر بضغط نفسي هائل".
في البيت أيضًا، تجد نورة نفسها مرغمة على أداء المهام باضطراب خاصّة أنها ترى في طبيعة الدوام المدرسي المسائي (11:30 صباحًا – 5:00 مساءً) ما يُجهد الطالب والأم على حدٍ سواء.
وقالت: "لدي أطفال في المرحلة الابتدائية في الدوام المسائي، هذا الأمر يرهقني جدًا ويجعلني في دوامة، يعود طفلي مشبع من الدراسة، وأنا أعود منهكة من دوامي، فكلانا لا يرغب في متابعة المهام الدراسية لكننا نؤديها مجبرين، وفي أحيان كثيرة اضطر للتغيب عن دوامي في حال كان لديه امتحان مهم".
وتُرغم السيدات على تحمل تبعات النظرة النمطية للرجل في مجتمع معروف بالمغالاة في العادات والتقاليد، بأنه صاحب السيادة المطلقة داخل المنزل، بما يجعل من مشاركته في الأعباء المنزلية أمر معيب!. ويعقد هذا الأمر المهام على النساء العاملات كثيراً، حيث أنها تضطر لتحمل ضغوطات قاسية نتيجة الإيفاء بالأعباء كاملة.
وعلى الرغم من أن نورة تجد نفسها تُحارب على أكثر من اتجاه، لكنها لم تجرب تلقى استشارات نفسية أو مساعدة مرشد نفسي، وقالت إنّ ما خضعت إليه هو "ترفيه/تفريغ نفسي" تنظمه مؤسسة لدعم الصحفيات بعد العدوان، مشيرةً إلى أن معظم الموظفات يعتمدن على "الفضفضة" لزميلاتهن كتفريغ نفسي، حسب قولها.
الكثير من النساء العاملات يعشن ظروفًا مشابهة من نورة سواء كُن يعملن في مهنٍ ذات ارتباط بالوضع السياسي الفلسطيني كالصحافة، والمهن الصحية والعمل الإنساني أو غيرهن، إذ قُدّرِت نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة للعام الماضي 2022 بـ (19%) من مجمل النساء في سنّ العمل، وهو ما يُشير إلى أن خُمس النساء في المجتمع هن عاملات. هؤلاء اضطر جزءٌ كبير منهن للعمل في ظلّ واقع اقتصادي متهالك يتطلب أن يُساندن أسرهن وأزواجهن ليتمكّن من توفير متطلبات الحياة.
وفي لحظة ضعف خارت قوى أماني خليل (29 عاماً) وهي موظفة في القطاع الحكومي، وشعرت بحاجة ماسة للجوء إلى طبيب أو مساعد نفسي، نظراً للضغط والقلق الذي كانت تعانيه. وقالت : "لقد شعرت بالحاجة الماسة لهذا الأمر غير أنه من الصعب تقبل فكرة اللجوء إلى طبيب نفسي في بيئة كمجتمع غزة".
وبعد صراع استمر لأيام قررت أن تتجاوز التحدي المجتمعي وطلبت المساعدة عبر الخط الساخن من إحدى المؤسسات الأهلية العاملة في مجال الرعاية النفسية. وقالت إنها بالفعل بدأت تشعر بالتحسن التدريجي وخاصة أنها وجدت مَن يسمعها، وأنها في وقتٍ سابق لم يكن بمقدورها البوح بشكواها حتى لدى أقرب الناس إليها، وذلك حتى لا تتهم بالضعف.
ومن الواضح أن بعض النساء العاملات يعانين الضغط النفسي نظراً لأن العمل لا يشكل لهن شغفا بقدر ما أنه فرصة للتكسب والمساعدة في تحسين دخل الأسرة، وهذا ما يجعل الموازنة بين الأعباء المنزلية وأعباء العمل أمر صعب في الكثير من الأوقات.
تقول المختصة النفسية خلود الأزبط، إنَّ العمل عندما يتحول من رغبة في إثبات وتطوير الذات إلى عمل اضطراري لكسب المال وضرورة لتوفير لقمة العيش، يصبح مصدر للضغط النفسي بشكلٍ كبير جدًا. إضافة إلى أن المرأة في هذا الميدان تصارع عدّة اتجاهات منها النظرة المجتمعية لدى البعض التي ترى أن مكان المرأة هو "البيت والمطبخ"، ولا تأبه لشكواها من أيّة ضغوطات على اعتبار أنه خيارها ورغبتها.
الثلاثينية آلاء كمال، تعيش تجربة أكثر صعوبة فهي معلمة متزوجة تقطن بغرفة داخل بيت عائلة زوجها، بينما زوجها لا يعمل. تصف نفسها بـ "المرأة الحديدية" عندما تؤدي أكثر من دور في اليوم الواحد وما يترتب على ذلك من ضغوط شديدة تواجهها، وتتسبب لها بالكثير من الأزمات النفسية والمشكلات الجسدية كتساقط شعرها، وظهور حبوب في وجهها، وغيرها.
علميًا، يؤكد المختص الأسري والتربوي أدهم البعلوجي، أنّ سلبيات تراكم الضغط النفسي على المرأة العاملة دون اللجوء إلى أهل الاختصاص يؤثر بشكلٍ سلبي على حالتها النفسية وعلى أداؤها في العمل وعلاقاتها الاجتماعية، وصحتها الجسدية كذلك، كشعورها بالتعب وعسر الهضم وآلام الرقبة وخفقان القلب. إلى جانب الغضب السريع، وضعف التركيز، وهو ما يؤثر مباشرةً على علاقتها الزوجية فينخفض مستوى التواصل بينها وبين زوجها وتفقد قدرتها على التعبير.
تعود آلاء من الدوام المدرسي وطاقتها قد نفذت، فتجد دوامًا آخر ينتظرها في البيت من الأعباء والمهام المنزلية التي لا تنتهي، فتلك التي تقطن في بيتٍ مستقل يُمكنها التحكم في إدارة شؤون بيتها وأداء أعبائه بالشكل الذي يلائمها أما التي تعيش في ظرفٍ كآلاء قد تضطر للاحتكام للوضع الحاصل. ويبدو لها أن تحقيق التوازن بين العمل وبيت الزوج صعب خاصة كونها تعمل أيضًا في مركز تعليمي خاصّ، وهو ما يُلقي ضغطًا إضافيًّا على كاهلها.
يضاف إليه عدم تقدير محيطها لما تبذله من جهود وما تُكابده من ضغوط، تقول، "أهل زوجي يستخفون بالتعب الذي ألاقيه في المدرسة ويرهنون ذلك بالمدة التي أقضيها في المدرسة وهي في نظرهم قليلة وغير مرهقة، أما أهلي فلا يتفهمون مشاعري والكبت الذي أعيشه، وذات مرة تلقيت مع زميلاتي دعمًا نفسيًا وعندما أخبرت أهلي واجهوا الأمر بالسخرية على الرغم من أنني كنت بحاجة لتلك الجلسات التي أفادتني كثيرًا".
هذا الأمر استدعى "آخر قصّة" لإجراء استفتاءً على 10 نساء عاملات في بيئاتٍ مختلفة، وتطرح عليهن تساؤلاً مفاده، "هل اضطررتم لطلب مساعدة مختص نفسي في أوقات الضغوط النفسية الشديدة؟"، وعلى الرغم من أنّ تعميم النتائج قد لا يبدو منصفًا إلا أنه يترك انطباعًا قريبًا من الواقع، إذ إن سيدة واحدة منهن فقط قالت إنها فكرت باللجوء لمعالجة نفسية وكانت تشعر بالحرج الشديد.
أما اثنتان أُخريات من المستطلعة آراؤهن، استخففن الأمر وأجبن بتهكم "ماذا سيقول عني الناس، مجنونة؟"، أما أربعة أخريات فيرين في الأمر رفاهية لا يملكنها. ومن ناحيةٍ أخرى أخبرت الثلاثة البقية أنّهن في حال احتدمت عليهن الضغوط النفسية بشكلٍ لا يطاق سيفكرن في ترك العمل، ويكتفين بالضغوط الناتجة عن رعاية الأسرة والبيت.
ما مدى حاجة المرأة العاملة للمتابعة لدى مختص نفسي؟ تُجيب المختصة النفسية "الأزبط"، "الأم العاملة تحتاج في وقتٍ معين مَن يسمعها ويدعمها، لتصبح أقوى وأقدر على تأدية مهامها بكفاءة مهنية عالية، ولا تتراجع في أعمالها. إنها واحدة من المشكلات التي تعيشها نتيجة الكبت والضغط والتوتر والقلق النفسي الذي يُراودها، لكنها إذا تداركت الأمر من بدايته ستتمكن من تحقيق التوازن فلا تخسر بيتها أو عملها".
يتقاطع ما أشارت إليه الأزبط مع الخطوات التي ذكرها البعلوجي والتي تساعد المرأة العاملة في عدم حدوث اختلال توازن في أدائها مهام العمل والبيت معًا. منها مواجهة المشكلة بشكلٍ مباشر وتحديد السبب الحقيقي لمواجهة هذه الضغوط، وهو ما يكون مفتاحًا أساسيًا لحلّ هذه المشكلة. بالإضافة إلى ممارسة الرياضة والهوايات المحببة، تناول غذاء متوازن وصحي، التحدث بما تشعر به مع زوجها والمحافظة على حميمة العلاقة بينها وبينه، وتخصيص مزيد من الوقت للعب مع أطفالها.
لا تقف معاناة النساء العاملات أمام الضغط النفسي الذي يواجهونه لإثبات قدراتهن على أداء واجباتهن ببراعة في المنزل والعمل، فالكثير منهن يعشن ظروفًا سيئة للغاية في ظلّ تسلط أولياء أمورهن أو أزواجهن على أجورهن، أو تعرضهن لأشكال مختلفة من العنف داخل البيت أو بيئة العمل، وهو ما يشير وفق آراء المختصين النفسيين إلى الضرورة المُلحة لاستشارة مختصين أو طلب مساعدة مقربين من وقتٍ لآخر.
النساء العاملات والضغط النفسي