نسمة : أول كفيفة فلسطينية تحوز على "الدكتوراه"

نسمة : أول كفيفة فلسطينية تحوز على "الدكتوراه"

لم يكن غريبًا على نسمة الغولة (36 عامًا) أن تصبح أول فتاة كفيفة تحصل على درجة الدكتوراه في قطاع غزة، فقد قررت منذ أن أبصرت الحياة ولم تبصر نورها أن تسلك بنور العِلم مسارها، فحافظت عبر مراحل دراستها المختلفة على لقب "الأولى" ولم ترضخ يومًا للإعاقة.

تميزت الغولة التي تعاني منذ طفولتها إعاقة بصرية كليّة ودائمة نتيجة حمى شوكية أصابتها من الغازات السامّة، على الكثير من أقرانها الذين لم يلتحقوا أبدًا بالتعليم وهم ما يُشكّلون نسبة (42.2%) من ذوي الإعاقة في قطاع غزة، فيما هي واحدة من أصل (9729) يعانون صعوبة في الإبصار داخل القطاع، وفقًا لإحصاءات وزارة التنمية الاجتماعية.

بدأت رحلة التحدي معها منذ استطاعت هذه الفتاة التي تقطن في حيٍ ناءٍ شرق مدينة غزة، بعيدًا عن مدارس المكفوفين، وتعاني أسرتها ظروفًا مادية صعبة، أن تواصل دراستها في مدرسة ثانوية عامة (غير مواءمة لذوي الإعاقة)، وتحقق نجاحًا باهرًا بحصولها على معدل 85% في الثانوية العامة فحظيت على تكريم من وزارة التربية والتعليم بغزة.

وقد اعتادت الغولة على اعتلاء منصة التكريم دومًا، ففي المدرسة حصدت المراكز المتقدمة في مسابقات وزارة التربية والتعليم على مستوى محافظات قطاع غزة. وكذلك في الجامعة صعدت دومًا للتُكرّيم كأحد طلبة الامتياز في كل فصل دراسي؛ مما أهلّها لتكون أول فتاة كفيفة تلقي كلمة الخريجين عندما اعتلّت منصّة خريجي الجامعة الإسلامية بتخرجها من كلية التربية- دراسات إسلامية عام 2012.

"لم أقف مكتوفة الأيدي وكان طموحي أكبر من الإعاقة" قالت نسمة في حديثها لـ "آخر قصّة" معبرةً عن مواصلتها الدراسة في العام نفسه، فالتحقت في برنامج الماجستير قسم التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين بالجامعة ذاتها وحصلت على الدرجة عام 2015، بعد مُكابدَة كبيرة تخللها وقوع عدوان 2014 واضطرارهم النزوح لعدّة شهور.

كما أنّ معاناتها خلال رحلة الدكتوراه لم تكن أقل قدرًا من تلك التي واجهتها في دراسة الماجستير، على الرغم من نيلها درجة الامتياز عن أطروحتها المعنونة بـ "مظاهر فساد الروابط الاجتماعية داخل الأسرة وسبل علاجها.. دراسة موضوعية قرآنية"، والتي حصلت عليها من جامعة طرابلس بلبنان في العام الحالي 2023.

وفي التفاصيل، تقول "كنت أشعر بالحزن واليأس عندما لا أجد موائمة حقيقة لذات الإعاقة البصرية، فلا أجد المساق الذي أريده مطبوعًا (Word/Pdf) بطريقة برايل أو مواءم لي، ولا أجد المرافق التي أستطيع التنقل من خلالها أو أي وسيلة احتاجها وتكون غير متوفرة لي".

لكنها اليوم بعدما اجتازت تلك العقبات ازداد إيمانها بقدراتها وطاقاتها، وأدركت معنى الإصرار والعزيمة للوصول إلى هدفٍ ما، ونجحت في أن تصبح أنموذجًا يُغيّر النظرة المجتمعية "القاصرة في معظم الأحيان" حول الأشخاص ذوي الإعاقة فتميزت وأبدعت.

تؤمن الغولة بأنّ إعاقتها البصرية كانت سببًا قويًا وراء نجاحها المستمر، تقول، "الإعاقة هي الطاقة، ولو لم أكن من الأشخاص ذوات الإعاقة لما وصلت إلى ما أنا عليه الآن خاصّة في ظلّ وجود نظرة سلبية في مجتمعنا، لكن إعاقتي كانت حافزي لأثبت للجميع أنني أستطيع، فكانت الإعاقة حافزي للنجاح والتميز والوصول".

إضافة إلى ذلك، ساعدها عملها كمنسقة مركز خدمات الإعاقة والدمج بالجامعة الإسلامية، على تطوير مهاراتها في عدّة مجالات، توضح "أحرزت على المستوى الشخصي مهارات وقدرات ومعارف أكثر"، فتعمّقت معرفتها في مجال العمل الإداري.

ولم تكتفِ بإحراز التقدم الإداري فقررت ألا تبقى حبيسة "الوظيفة" ونشطت في المجال المجتمعي وشاركت في عدّة مشاريع دولية، من ضمنها مشروع "الفلسطينيون ذوو الإعاقة يقودون التغيير" المنبثق مركز إبداع المعلم. وكذلك مشروع "تقييم سياسات ممارسات التعليم الشامل"، ومشروع "صوت ذوي الاعاقة من غزة: الدراية الاعلامية والرواية السردية القصصية".

وتبدو هذه الفتاة كالنحلة التي لا تتوانى عن العمل الإبداعي فقد خاضت مجال التنمية البشرية والتوعية الحقوقية والتدريب الفعال. وحصلت لقب المدرب المميز من الرابطة العربية للإعلام التنموي. فيما هي تشغل حاليًا منصب عضوة ومدربة ضمن منتدى "مبدعون تحدوا الإعاقة". ودرّبت عددًا من الإعلاميين في مجال الحقوق ومجال التنمية البشرية.

أما خلال مشوارها البحثي، كان للغولة عدّة مساهمات بحثية منها مشاركتها في المؤتمر الأول المخصص لذوي الإعاقة، إذ قدمت ورقة بحثية تناولت قضية الإعاقة في قطاع غزة ممثلة عن الجامعة الإسلامية. تقول، "كانت تجربة رائعة تمكنت فيها من تمثيل الجامعة بتميز". بالإضافة إلى ذلك، شاركت في العديد من المؤتمرات المحلية والدولية مع مؤسسات دولية مختلفة عبر الإنترنت. 

لكن هذه الإنجازات مجتمعة لم تكن لتكون لولا دعم أسرتها الكبير التي ساندتها لتصبح اليوم "دكتورة العائلة الأولى"، تقول، "ممتنة لأسرتي التي آمنت بقدراتي على تحقيق ما أريد، وعاملتني دائمًا بحب وحفزتني على الوصول، فكانت خير عون لي في أسفاري، وقدمت التضحية لأجلي خلال مسيرتي التعليمية كاملة".

اليوم تطمح الغولة بعدما حازت على درجة الدكتوراه، بأنّ تحظى على فرصتها في العمل الأكاديمي داخل الجامعات الفلسطينية، وألا تبقى تُكابد كغيرها من ذوي الإعاقة تحدي الحصول على فرص عمل لائقة ومواءمة لهم، فتسعى جاهدة لتكثيف مشاركاتها البحثية في المؤتمرات الدولية والمحلية وتمثيل فلسطين وقطاع غزة في كل المحافل الدولية.