يتضاعف عبء الحياة على كاهل الأسر الفقيرة في المناطق العشوائية والحدودية بقطاع غزة. وبخاصة في ظل تراجع فرص التنمية وتحسين العيش، لاسيما بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية على نحو غير مسبوق.
يوجد في قطاع غزة نحو 28 عشوائية تقع على مساحة (1354) دونم، ويعيش عليها آلاف السكان ممن تقطعت بهم السبل ويعانون الفقر وانعدام المسكن. في حي (نهر البارد) على سبيل المثال، وهو حي سكني يقطنه قرابة 150 أسرة غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، تنعدم فرص الحياة الأدمية ويعيش السكان في غرف صفيحية أشبه بتلك التي عاش فيها الإنسان البدائي. من يطأ تلك المنطقة يمكنه معايشة تفاصيل النكبة الفلسطينية بوجه حديث. فلا مساكن أدمية ولا غرف أو منافع تضمن استقلالية أفراد الأسر.
يعيش السكان هناك بمحاذاة مكب للنفايات، ويشرب أطفال الحي المياه المحلاة من خزان واحد، يصطفون في طابور طويل لأجل القيام بتعبئة جالوناتهم.
جولة واحدة في تلك المنطقة كفيلة بأن تعزز لديك عزيز القارئ صدق الحكمة القائلة "إن الفقر هو أسوأ أشكال العنف"، فليس أبلغ من هذه الصورة تنعكس حجم البؤس الثابت هنا كأوتاد الخيام وأعمدة الأسقف الخشبية.
جائحة كوفيد-19 بمدى اتساعها وتفشيها في قطاع غزة، قفزت إلى مستوى تهديد الصحة العامة، وبالتالي قد يبرر هذا الأمر فرض قيود على بعض الحركة في مختلف مناطق القطاع، لكن بموازاة ذلك لم يخضع جميع الأفراد لنفس الحقوق فيما يخص عملية الفحص العشوائي للمواطنين التي قامت بها وزارة الصحة في مختلف المحافظات، للتأكد من سلامتهم.
كان من الضروري القيام بعملية مسح مماثلة لسكان المناطق العشوائية، وذلك للحدّ من الأضرار التي قد تنجم عن عدم اتخاذ التدابير الصحية اللازمة لضمان سلامة هؤلاء الفقراء والمعوزين.
في إفادة شخصية لكتاب المقال أكد غالبية سكان الحي أنهم لم يخضعوا مذ انتشار الجائحة إلى أي عملية فحص للتأكد من سلبية الإصابة، وإن جل الخدمات التي تعاملوا معها تمثلت في عملية تعقيم قام بها أشخاص من المجتمع كمبادرة لمكافحة الوباء، في مارس الماضي، لمساكنهم المتهالكة.
يتعارض هذا الواقع، مع ما نصت عليه المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي يؤكد على أن الحق في الصحة هو حق اجتماعي واقتصادي أساسي، و "تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة".
إضافة إلى ذلك فإن قانون الصحة العامة الفلسطيني رقم 20 لسنة 2004 ينص على أن وزارة الصحة مطالبة باتخاذ التدابير الوقائية والعلاجية اللازمة لحصر انتشار الأمراض المعدية، واحدة منها "إجراء الفحوصات الطبية اللازمة".
وهذا في واقع الامر لم يتحقق بالشكل الأمثل، إذ أن غالبية السكان الذين يقطنون المناطق المهمشة، لم يخضعوا إلى مثل هذه الفحوصات، على الرغم من أن حجم الكثافة السكانية لن يعطي فرصة كبيرة للنجاة من الإصابة بالفيروس خصوصا لسكان تلك المناطق الذين يتعاملون بمنطق "الأسرة الواحدة" بحكم الترابط الاجتماعي والأسري.
يواجه هؤلاء السكان مشكلة كبرى تتعلق بأزمة الحاجة المادية، إذ أن غالبيتهم لا يتوفر لديهم القدرة على اقتناء الأدوات اللازمة لتجنب مخاطر الإصابة بفيروس كورونا، ومنها على سبيل المثال: الكمامة الطبية، والمعقمات، ومعدات التنظيف، إلى غير ذلك من وسائل وقاية.
تقول إحدى السيدات التي قابلها كاتب المقال، "لو كنت أملك المال، لفضلت أن أشتري طعاماً على أن أشتري معقمات أو كمامة واقية". وهذا بحد ذاته يعطينا مؤشرا على النتائج الكارثية التي صنعها الفقر في هذه المناطق التي قدر سكانها بالمئات.
دعنا عزيزي القارئ نتخيل سيناريو إصابة حالة واحدة من بين هؤلاء بالفيروس، معنى هذا أن إصابة الحي بأكمله لن يحتاج سوى ساعات على ابعد تقدير حتى يصاب جميع السكان بالوباء. وإذا وقع ذلك -لا قدر الله- فهذا يعني أن احتمالية نقل العدوى للمجتمع الخارجي أمر حتمي، على اعتبار أن سكان العشوائيات بحكم ظروفهم الاقتصادية المتردية منفتحون على المجتمع الأكبر، بحثا عن لقمة العيش.
هذا السيناريو الخطر، يتوافق مع تحذيرات وزارة الصحة الفلسطينية برام الله، والتي قال المتحدث باسمها كمال الشخرة، إن فلسطين مقبلة على كارثة صحية وقد نسجل من 40- 50 حالة في اليوم الواحد.
ومما هو واضح، فإن مؤشرات الخطر تجسدت في وصول عدد الوفيات إلى 10 حالات في اليوم واحد، وفقا لما سجلته وزارة الصحة بغزة بمقابل إصابة قرابة الألف مواطن، في السادس عشر من ديسمبر الحالي، في حين بلغ عدد المصابين حتى تاريخه، أكثر من 30 ألف إصابة، بمقابل 220 حالة وفاة.
أمام هذه الأرقام الكارثية، حري بالجهاز الحكومي، أن يجيب على السؤال التالي: إذا كانت خطة مواجهة الوباء لم تراع الفئات المهمشة والفقيرة، فكيف يمكن أن تحد من الفيروس داخل المجتمع؟
وبالتالي، يصبح من الضروري الآن البدء بإعادة تقييم خطة مكافحة الجائحة، من خلال العودة مجددا لمربع التوعية بمخاطر الفيروس، وبخاصة لدى الفئات المجتمعية الأكثر هشاشة، بما يضمن تعزيز الوعي لديها ويمكنها من مواجهة الفيروس قبل أن يخطف المزيد من الأرواح، ويراعي تساوي الحق في الصحة لدى جميع الطبقات المجتمعية.
كما أنه من الأهمية بمكان، أن يقوم الجهاز الحكومي عبر دوائره المعنية، إلى جانب مؤسسات المجتمع المدني بتزويد الفئات المهمشة بالمعدات الضرورية اللازمة لمكافحة الفيروس، ومنها على سبيل المثال توفير الكمامات والكلور ومواد التنظيف، إلى جانب توفير احتياجاتها الأساسية بما يحد من حركة أرباب الأسر الباحثين عن قوت أطفالهم، ويقلل من فرص المخالطة.
إلى جانب ذلك كله، لابد من التشديد على أهمية الحفاظ على التباعد الاجتماعي، وبخاصة في تلك المناطق التي لا تراعي عاداتها وتقاليدها ومواقد السمر فيها، قواعد التعامل المستجدة بعد انتشار الجائحة.