يشهد سكان المناطق الحدودية داخل قطاع غزة المدنيين والعاملين فيها، صنوفًا عديدة من الانتهاك على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي وضروبًا مختلفة من أنماط المعاناة، وهو ما يعود عليهم بالأثر السلبي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
وتمتد المناطق الحدودية المسماة بـ "المنطقة العازلة" أو "المناطق المقيدة الوصول برًا" على طول السياج الشرقي والشمالي الفاصل لقطاع غزة بطول (62 كم) وعمق (1500 متر)، فيما تبلغ نسبة الأراضي في المنطقة مقيدة الوصول 25% من المساحة الإجمالية للقطاع.
تشكّل هذه الممارسات انتهاكًا صارخًا لقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، إذ تنصّ الفقرة (2) من المادة (1) من العهد الدولي الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، على أن "لجميع الشعوب سعيًا وراء أهدافها الخاصة التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأيّة التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي، ولا يجوز في أيّة حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة".
يعمل في هذه المناطق العديد من المواطنين، في عدد من الأنشطة الصناعية والزراعية وأنشطة أخرى مدنية من مزارعين ورعاة أغنام وصائدي عصافير وجامعي الحطب والحجارة والحديد وبلاستيك "الخردة"، وغيرهم. ويتعرضون لمختلف أنواع الانتهاكات ما يتسبب في صفوفهم بخسائر بشرية ومادية وتعطل أعمالهم، وحرمانهم الاستفادة من مواردهم وثروات أراضيهم قسرًا.
وتنوعت ممارسات الاحتلال تجاه العاملين في المناطق مقيدة الوصول برًا بإيقاع الخسائر البشرية سواء عبر إطلاق النار صوبهم أو اعتقالهم، أو إصابتهم المباشرة وقتلهم.
من بين هؤلاء، محمد عمّار (41 عاما) الذي كان يُمارس مهنة صيد الطيور المهاجرة بين فوهات نيران الاحتلال، قرب الحدود الشرقية لوسط قطاع غزة، قبل أن يُباشر الاحتلال بإطلاق النار صوبه.
وكان عمّار قد انطلق فجرًا في رحلته لصيد الطيور المهاجرة في سبتمبر 2021، التي تشكّل مصدر رزقه في فصل الخريف وذلك منذ بدأ في ممارستها وهو بعمر (12 عامًا)، وتساعده في إعالة أسرته المكوّنة من ثمانية أفراد.
لم تمضي ساعات قليلة على انطلاقه في رحلته قرب السياج الفاصل، حتى باغتته رصاصات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتمركز على الجانب الآخر من السياج؛ ما أصابه في رقبته وأودى بحياته على الفور.
عمّار أحد الضحايا المدنيين العاملين في المناطق المقيدة الوصول، ومثله 7 آخرين قتلوا على أيدي القناص الإسرائيلي في النصف الأول من العام الحالي 2023، فيما بلغت أعداد المعتقلين 23 منهم ثمانية أطفال، ووصلت أعداد المصابين إلى 26 من بينهم 5 أطفال وامرأة واحدة.
وإذا نجا العاملين في المناطق الحدودية من استهدافٍ مباشر من الاحتلال يودي بحياتهم ويُزهِق أرواحهم، فإنّ الكثير منهم لا ينجون من حوادث الإصابة أو الاعتقال.
محمود جابر (42 عامًا) مزارع من سكان خزاعة شرقي خانيونس، يملك قطعة أرض في المنطقة الحدودية هي مصدر عيشه الوحيد وأسرته المكونة من 7 أفراد.
تعرّض قبل بضعة شهور إلى إطلاق نار من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، أثناء عمله في حراثة أرضه التي كان يجتهد لتحقيق محاصيل جيدة منها تساعده على تأمين لقمة عيشه، إلا أنَّ الإصابة التي أدت إلى بتر قدمه غيّرت مسار حياته للأبد، فأصبح يعتاش على مساعدات المؤسسات الخيرية المتذبذبة والموسمية إذ لا تُسْمِن ولا تُغني من جوع.
حادثة محمود هي واحدة من أصل (415) انتهاكًا تعرض لها المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم في المنطقة مقيّدة الوصول برًا، وفقًا لتوثيق مركز الميزان لحقوق الإنسان في النصف الأول من العام الحالي 2023، فيما تعددت أنماط هذه الانتهاكات فجاءت ما بين استهداف العاملين وممتلكاتهم، استهداف التجمعات السليمة، التوغلات، تخريب أراضي المواطنين، اعتقال المواطنين الفلسطينيين، واستهداف الممتلكات والأعيان المدنية.
في ظروف مُهينة لا تختلف أبدًا عما يُقاسيه الصيادين الفلسطينيين في عِرض البحر، تعرض فؤاد خالد (24 عامًا) للاعتقال التعسفي عندما كان يجمع البلاستيك والخردة من المنطقة الحدودية شمال قطاع غزة، بغرض بيعها.
وكانت الساعة تشير إلى الخامسة والربع فجرًا عندما لاحقت قوات راجلة من جنود الاحتلال الإسرائيلي الشاب الأعزل، وأمسكت به فأمرته بخلع ملابسه تحت وقع الضرب المبرح، وعصّبت عينيه وقيّدت يديه بقيود معدنية ثم اقتادته إلى جهةٍ مجهولة.
وهناك أخضعت قوات الاحتلال خالد في مراكز التحقيق للضرب والتحقيق لبضعة أسابيع، وقامت بإيقافه دون ذكر أسباب واضحة، واستمرت على ذلك حتى أفرجت عنه بعد مرور 62 يومًا في ظروفٍ نفسية بشعة.
تتكرر حوادث الاعتقال بشكلٍ دائم ويتعرض جميع العاملين في هذه المناطق إلى الخطر الشديد، مما يجعلهم غير آمنين على أرواحهم وحياتهم.
وتتوزع الحوادث التي بلغت (12) حادثة اعتقال خلال الـ (6) شهور الأولى من العام الحالي على معظم محافظات قطاع غزة، فجاءت (3) في شمال غزة تسببت باعتقال 6 أشخاص خمسة منهم أطفال، و(5) في دير البلح وسط قطاع غزة نتج عنها اعتقال (10) أشخاص ثلاثة منهم أطفال.
بالإضافة إلى حادثتين في خانيونس تسببت باعتقال (4) أشخاص بالغين، وحادثين أيضًا في رفح جنوب قطاع غزة، أدت إلى اعتقال ثلاثة أشخاص.
ويستخدم الاحتلال في استهدافه العاملين في هذه المناطق شمالي وشرقي القطاع، مختلف أنواع الأسلحة الرشاشة والثقيلة، وتشمل القذائف المدفعية والصاروخية وإطلاق النار المباشر من قِبل أبراج المراقبة والآليات العسكرية الجاثمة على الطرف الآخر من السياج الفاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وكثيرًا ما ترد أنباء عبر الإعلام المحلي الفلسطيني، عن فتح قوات الاحتلال نيران رشاشاتها صوب المزارعين في المناطق الحدودية، فتوقع في صفوفهم القتلى والإصابات على حدٍ سواء، كما تعتقل العديد منهم، وتُلّحِق الخسائر المادية بممتلكاتهم خاصّة عندما توقفهم عن أعمالهم أو تفقدهم مصادر رزقهم.
يأتي في تفاصيل تلك الممارسات الإسرائيلية التي تنتهك حقوق المزارعين العاملين في المنطقة العازلة، قيام الاحتلال برش المبيدات الكيميائية بواسطة طائرات مُسيّرة؛ مما يدمر المزروعات ويجعلها غير قابلة للاستخدام البشري ويفاقم معاناة المزارعين، إذ قدِّرت مساحة الأراضي الزراعية المتضررة من إطلاق النار والقصف بـ (5870) متر مربع، وذلك ضمن (295 حادثة) في الست شهور الأولى من عام 2023.
إضافة إلى قيام الاحتلال أيضًا بإغراق الأراضي الزراعية بمياه الامطار عبر فتح السدود وضخ المياه الفائضة تجاهها؛ ما يؤدي إلى فساد المزروعات وقد قدَّرت الأراضي المتضررة من هذه الممارسات بنحو 24 ضعف أو أكثر من الأولى وذلك بمساحة (145700) متر مربع.
وإلى جانب إلحاق الضرر بالأراضي الزراعية عن طريق رش المبيدات أو إغراقها بمياه الأمطار عبر فتح السدود، تقوم آليات الاحتلال العسكرية بالتوغل في المنطقة المقيدة الوصول، وهي واحدة من أبرز أنماط الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال في حق الفلسطينيين من قطاع غزة القاطنين في المناطق الحدودية، وفقًا لتقييم مراكز حقوقية.
وتتكرر عمليات توغل الآليات العسكرية الإسرائيلية والجرافات في الآلاف من أراضي المواطنين الزراعية، والتي يصاحبها القصف المدفعي وإطلاق النار الكثيف والمتواصل تجاه المواطنين المدنيين عبر الأسلحة الرشاشة.
يتسبب هذا الأمر بتوقف الكثير من المزارعين بشكلٍ دائم أو مؤقت عن ممارسة أعمالهم، أو تغير نمط زراعتهم من زراعة المزروعات التي تحتاج لرعاية دائمة إلى التي تتطلب رعاية مؤقتة كالشعير والقمح المعروفة بإنتاجيتها المنخفضة والتي تُضيق الخناق عليهم وتزيد أوضاعهم المعيشية سوءًا.
حسن خليل (64 عامًا) يملك أرضًا زراعية في منطقة ملكة شرق مدينة غزة، تتعرض كثيرًا للتجريف والتخريب من قِبَل آليات الاحتلال وجرافاته؛ ما يُكبدّه خسائر فادحة.
يقول الرجل: "أزرعها في كل مرة شتلات صغيرة من الزيتون ونعتني بها ونرعاها أنا والأبناء بالأسمدة والحراثة والاهتمام الدائم، ونحن نوّعل عليها في تحصيل ربح جيد من ثمارها بعد سنوات من الرعاية، وعندما تبدأ الأشجار في الحِمل يقوم الاحتلال بتجريفها كاملة فيحولها إلى أرض جرداء".
وكان يتمنى خليل أن يتناول الزيتون والزيت من أرضه التي سرعان ما تتحول إلى رماد بفعل انتهاكات الاحتلال، الأمر الذي يوقع عليه خسائر مادية تُقدّر بآلاف الشواكل.
وقد توزعت حوادث التوغل في الأراضي الزراعية للمواطنين على مختلف المناطق الحدودية في جميع محافظات قطاع غزة، وقدّرت خلال النصف الأول من العام الجاري بـ (27 حادث) موزعة ما بين (2) في رفح، (12) في خانيونس، (6) في دير البلح، (3) في غزة، (4) في محافظات شمال غزة.
ينتهك الاحتلال الكثير من حقوق المدنيين في قطاع غزة، لا سيما استهداف التجمعات السلّمية، وهو ما يُخالف نصوص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي حفظت الحق في التجمع السلمي.
وينطلق الفلسطينيون من قطاع غزة في تجمعاتٍ سلّميّة تدعو لها قوى فلسطينية، بالتوجه إلى المناطق الشرقية الحدودية وذلك تنديدًا بالعديد من الأحداث الميدانية أو ذكرى أحداث وطنية وتاريخية وغيره.
على إثر ذلك، يصبح المشاركون في هذه التجمّعات هدفًا قوياً في مرمى جنود الاحتلال الذي يوقع بينهم القتلى والمصابين بإطلاق النار أو القنابل المسيلة للدموع التي تصيب الكثيرين بالاختناق، متجاوزًا حقهم الدولي في الاحتجاج السلمي.
وقد وثق الميزان في تقريره الإحصائي المعنون بـ "ممنوع من الوصول" والصادر في 30 يونيو من العام الحالي أعداد الضحايا جرّاء حوادث استهداف التجمّعات السلمية، التي أدت إلى استشهاد شخص وإصابة 24 آخرين منهم 5 أطفال وامرأة واحدة، وذلك في (9 حوادث) متتالية من يناير حتى يونيو 2023.
بالإضافة إلى ذلك، طالت اعتداءات الاحتلال الكثير من المنشآت الصناعية والتجارية الخاصة والعامة، ومرافق البنى التحتية كشبكات الكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، والطرق.
وأوقعت الأضرار الجسيمة في الوحدات السكنية فبلغ عدد الوحدات المتضررة (7) خلال المدة الزمنية السابقة ذاتها، وجاءت ما بين (9) تضرر كلي و(8) تضرر جزئي.
إلى جانب تضرر أصحاب مزارع الطيور والدواجن والحيوانات التي تُشكّل مصدر دخل رئيسي للكثير من العاملين فيها، مما تسبب بتكّبدهم خسائر مادية كبيرة.
أمام هذه الاعتداءات الإسرائيلية بحقّ سكان المناطق الحدودية برًا شرقي وشمالي القطاع، التي تعددت أنماطها وأشكالها، أدان الحقوقيون الفلسطينيون استمرار الانتهاكات التي تودي بحياة الكثير من المواطنين وتتسبب بالإضرار في عصب حياتهم الاقتصادية،ودعوا المجتمع الدولي للقيام بدوره في الحد من هذه الاعتداءات والممارسات التي يتسبب بها الاحتلال وتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية في حماية السكان داخل قطاع غزة.