عندما يكون معظم الناس لا يزالون في غفوتهم العميقة فجراً، يبدأ محمد إبراهيم وهو بائع متجول، رحلته اليومية منطلقاً من بيته الواقع في منطقة جباليا شمال قطاع غزة إلى غرب مدينة غزة يجر عربة محملة بالخبز الطازج، وكل مما يملكه للدلال عليه هو حنجرة متحَشرجة ينادي بها "كعك.. كعك".
إبراهيم رجل في العقد الرابع من عمره، يبدأ يومه تحت ظلام الليل، يقول إنه يستيقظ على وقع صوت المؤذن، يستعد ليكون أول شخص يستقبل نور الفجر. فبمجرد أن تبزغ أول أشعة الشمس، يبدأ هذا البائع البسيط رحلته. يجر عربته الصغيرة متجهاً نحو المخبز القريب.
هناك، ينتظر دوره بصبر رفقة بائعين آخرين جاؤوا من مناطق متفرقة، مثلما تتداعى العصافير فجراً بحثا عن قوت يومها، يمتلئ الهواء برائحة الخبز المجدل الشهية والطازج، معبأ بكل حب وعناية. يقوم محمد باختيار أفضل القطع ويقوم بترتيبها في عربته بدقة، وكأنه يقوم بتزيين رزقه.
ثم ينطق الرجل صاحب الشعر الرمادي إلى الشوارع الصامتة، بحثا عن زبون هنا وآخر هناك، ومع حلول الساعة السادسة يتوافد نحوه الصغار من طلبة المدارس الذين عادوا إلى مدارسهم قبل يومين بعد ثلاثة أشهر من العطلة الصيفية. وفي الغالب لا بد من أن يملك الواحد منهم على الأقل شيكلًا واحدًا لشراء كعكة.
يسمى الرجل الفتيات الصغيرات اللواتي خرجن من بيوتهن وعلى أعلى رؤوسهن ربطات شعر بيضاء متجهات إلى مدارسهن، بأنهن كالفراشات كلما التففن حوله، لشراء الكعك. يلقي عليهن تحيات الصباح متبسماً: "يسعدهن الحلوات ما أشطرهن". ترمقه الصغيرات في خجلٍ ويمضين إلى مدارسهن بسعادة غامرة.
في المقابل، لا يقوى الكثير من الطلبة شراء هذا الكعك، وبخاصة أولئك الذين تعاني أسرهم من الفقر المدقع بسبب تحديات الظروف الاقتصادية والحصار المفروض على القطاع للعام السادسة عشرة على التوالي، وساعد في تنامي مستويي الفقر والبطالة على نحو غير مسبوق.
يقود الرجل عربته وصولا إلى أبواب المدارس التي تعانين تضخماً في عدد الطلبة (45-50 طالباً/ة في الفصل الواحد) نتيجة العجز عن بناء مدارس جديدة في ظلّ ما تقوله الحكومة إنها تعاني ضعفاً في التمويل.
يلتفت البائع حوله ليرى وجوهاً طفولية تشرق بابتسامات بريئة بعضها ينزل من السيارة وأخرى من الباصات وآخرون من "التكتك" وفريق كبير جاء مشي على الأقدام.
بالقرب من باب المدرسة المطلي بالأزرق (اللون الرمزي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- الأونروا) يجتمع بعض الطلبة حول البائع، يتسابقون لاختيار قطعة الكعك المفضلة لديهم. يبتسم الرجل وهو يقدم خدمته بلطف وسعادة، ثم لا يكف عن عد الشواكل التي جمعها. ليطمئن أنه حقق عائداً من نفقاته. حيث إنه يقوم بشراء الخبز بقيمة تقل عن سعر البيع ببضعة أغورات (كل عشرة أغورات تساوي شيكل واحد)، وهذه هي قيمة ربحه.
وبينما ينتهي دوام الصباح المدرسي، تضاء وجوه الأطفال بفرح وحماس. يتوجهون إلى بيوتهم وهم يحملون أحلامهم وبقايا كعكهم المحبب، فيما محمد في مكانه بعض الوقت حتى نفاد الكمية التي جاء محملاً بها. وقبل الظهر بقليل يقوم محمد بحساب عائدات يومه، ليجد نفسه قد حقق مبلغًا بسيطًا. لا تكفي تلك الأموال لتلبية كل احتياجاته واحتياجات عائلته، لكنه يدرك أنها جهد صادق للاستمرار في معركة مكافحة الفقر.
وعلى الرغم من المشقة التي يتحملها الرجل إلا أنه يقول إن هذه المهنة هي خياره الوحيد بعدما استنفد كل السبل في الحصول على فرصة عمل مناسبة، ومثله العشرات من الباعة الذين يجدون في بيع الخبز خياراً لمواجهة العوز وقلة ذات اليد.
وأشار البائع إلى أن موسم المدارس يعتبر فرصة لزيادة نشاطه الاقتصادي، والذي يتسبب له بالكثير من الإرهاق نتيجة جر العربة خلال ساعات النهار ذات الطقس الحار، غير أنه يرى نفسه محظوظاً أن قدماه لا تزال تعينانه على مواصلة رحلة الكد اليومية، من أجل تأمين متطلبات الحد الأدنى لأسرته المكونة من ستة أفراد.
بائع الكعك غزة