يواظب الخُضَريّ خالد عدنان، على توفير الأكياس البلاستيكية السوداء في متجره الواقع في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، وذلك لاستخدامها اليومي في تعبئة الخضروات والفواكه إلى زبائنه.
ويفعل المئات من بائعي الخضار والفواكه في قطاع غزة الشيء ذاته من دون وعي بحقيقة تأثير هذه الأكياس على المنتج الزراعي وانعكاس ذلك على صحة المستهلك. في المقابل يحتفظ الكثير من المواطنين من غير وعي أو إدراك أيضاً، بالخضروات والفواكه داخل الثلاجة مغلفة بذات الأكياس.
ويحظر قرار حكومي صادر عن وزير التموين رقم (5) لسنة 1999م، من استخدام أكياس النايلون السوداء في حفظ وتغليف الأغذية. إلى جانب ذلك تتضاعف تحذيرات المختصين في الصحة العامة والبيئة على حدٍ سواء من مخاطر هذا التغليف، إلا أن ذلك لم يشكل دافعاً للجهات الرسمية للقيام بدورها الرقابي تجاه فرض القرار ومحاربة هذه الظاهرة، وبالتالي لا يوجد رادعً أمام شركات البلاستيك المنتجة أو المستوردة لهذه الأكياس.
بحسب وزارة الاقتصاد الوطني، يزود -13 مصنعاً- منتجاً للنايلون في قطاع غزة، السوق بما زِنَتُه -10 أطنان- أسبوعياً، ولا يتوفر لدى الوزارة احصاءات دقيقة حول كمية إنتاج النايلون الأسود على وجه الخصوص.
غير أننا لو افترضنا أن كمية إنتاج هذا النوع من النايلون يشكل 60% من حجم الإنتاج نظراً لكثافة استخدامه في الأسواق، فإننا نخلص إلى نتيجة مفادها أن حجم الإنتاج يساوي - 6 أطنان- إسبوعياً، على الأقل.
ويقول الخُضَريّ عدنان، إنه لم يتعرض مطلقاً إلى تحذيرات تفيد بخطورة هذه الأكياس على صحة الإنسان، وإنه اعتاد على استخدامها منذ افتتح متجره قبل سبع سنوات.
خلال عدة جولات قام بها معد التحقيق في أسواق مختلفة من قطاع غزة، وثق الاستخدام المفرط للأكياس السوداء. وقد دأب أيضا باعة الخضار المتجولين في شوارع غزة عبر عربات تجرها حمير، على استخدام هذه الأكياس، لأنه يشكل عادة شرائية في المقام الأول، ويعد الأقل سعراً مقارنة بغيرها من الأكياس المصنوعة من المواد الخام الخالصة غير المعادة، في المقام الثاني.
يفيد تجار وأصحاب مصانع، أن تكلفة المادة الخام الخالصة تبلغ -6 شيكل- للكيلوا الواحد ( ما يعادل 1.6$)، بينما يبلغ سعر كيلو المادة الخام المعادة -3 شيكل- (أقل من دولار).
زكريا أبو جبل المسؤول المالي، في شركة صبيح للتجارة والصناعات البلاستيكية، قال إن هناك استهلاكاً كبيراً للأكياس البلاستيكية السوداء في الأسواق المحلية، نظرا للعادات الشرائية في غزة، بحيث يميل الناس لاستخدامها من أجل إخفاء محتوى الكيس عن أعين الآخرين.
وأكد أبو جبل، أن النايلون الأسود يأتي من مصدرين، إحدهما المستورد والآخر محلي، مشيرا إلى أن المحلي يُعتمد في تصنيعه على المواد المكررة من مخلفات البلاستيك، وهو ما يطلح عليه "المجروش".
ولفت إلى أن هناك ميلاً واضحاً من الباعة لاستخدام الأكياس محلية الصنع والتي تعد أقل جودة، مقارنة بالمستورد المصنع من المواد الخام الأصلية والخالي من الروائح المؤثرة زكاماً باللأنوف، مبيناً أن هذا الميل نحو استخدام الأكياس السوداء محلية الصنع عائد لتدني أسعارها مقارنة بالمستوردة.
وقال أبو جبل: "الزبون لا يفرق بين مستورد ومحلي، ولهذا يلجأ التجار لتوفير الكيس الأقل تكلفة بالنسبة لهم والتي ربما تشكل خطراً على الناس، لاسيما أن هناك منتجات بلاستيكية لا يوجد لها أصل ولا تاريخ إنتاج ولا فترة صلاحية"، مرجعاً هذا الأمر إلى غياب الرقابة الرسمية عن الأسواق.
وأضاف "هذا التصنيع يضرني كتاجر لأن الناس لا يميزون بين المستورد والمحلي، وبالتالي تتراكم لدي الأكياس المستوردة في مقابل استهلاك الأكياس المعاد تصنيعها لأنها أقل ثمناً".
معد التحقيق أجرى استطلاعاً للرأي عبر مجموعة (ملتقى سيدات غزة) على موقع فيسبوك، للتعرف على حجم استخدام السيدات للأكياس البلاستيكية السوداء في بيوتهن، فتبين أن أكثر من 60% المستطلعة آراؤهن يشترين هن أو أزواجهن أو أبنائهن، الخضروات والفواكه والأسماك مغلفة في تلك الأكياس، رغم معرفتهن السطحية بخطورتها.
تقول رنا أبو شمالة، إنها حينما تشتري الخضار والفاكهة من السوق أو عبر الباعة المتجولين، فإنها غالبا ما تغلف بأكياس سوداء، على عكس السوبر ماركت الذي يعتمد أكياساً ملونةً في عملية التغليف.
ولا تدرك أبو شمالة مدى خطورة هذا الاستخدام وإنعكاساته على الأغذية، ولم يسبق لها أن تعرضت لنشرات توعوية أو تحذيرية تحظر استخدامه.
ويخالف هذا الاستخدام، قرار وزير التموين رقم (5) لسنة 1999م، بحظر تعبئة وتغليف المواد الغذائية بأكياس النايلون السوداء.
وطبقاً لنص القرار "يحظر على المنتجين والمستوردين والتجار والباعة المتجولين في نطاق أعمالهم، تعبئة أو تغليف أو تخزين المواد الغذائية اللينة أو السائلة في أكياس أو عبوات النايلون سوداء اللون"، وأن كل من يخالف أحكام هذا القرار يعاقب بالعقوبات المقررة قانوناً.
في المقابل، قال مدير دائرة التنمية الصناعية في وزارة الاقتصاد محمد كُلاب: "صحيح أن هناك قرار بمنع استخدامه في حفظ وتغليف الأغذية، ولكننا لا نستطيع أن نحدد مراقب لكل بائع (..) الموضوع بحاجة إلى ثقافة مجتمعية، كما أننا لا نستطيع أن نمنع تصنيع الأكياس السوداء لأن لها استخدامات متعددة، لكننا نمنع منعاً باتاً استخدام البلاستيك المجروش في تخزين أو نقل المواد الغذائية".
وأقر كُلاب في الوقت ذاته أن هناك صعوبة في عملية تطبيق القرار القاضي بمنع حفظ وتغليف الأغذية في الأكياس السوداء، لكنه قال: "نحن نحتاج إلى حد من كبير من الثقافة حتى يستوعب الناس الأمر، ولذلك نحتاج مشاركة المجتمع المدني والإعلام في توصيل الأفكار إلى الناس". وتابع: "لدينا مشكلة اقتصادية عندما أقوم بعمل محضر ضبط للمخالفين، وأقوم بتغريمهم، سأدخل في قضية سياسية نظراً للواقع الاقتصادي المتردي، ولهذا لدينا عدم راحة في العمل".
وفي الواقع، تجد أن قرابة 90% من أكياس البلاستيك السوداء المتداولة في السوق المحلي لا تحمل أي علامة تجارية. وتكمن خطورة استخدامها، أنها مصنعة من مواد بترولية يجري استعمالها غالباً بعد إعادة تدويرها، الأمر الذي يؤثر سلباً على المواد الغذائية المحمولة فيها، وفق إفادة مختصون.
وحذر الدكتور أحمد حلس، مدير التوعية البيئية في سلطة جودة البيئة، من استخدام هذه الأكياس، قائلاً: "إن استخدام الأكياس السوداء في وضع الطعام والخضار والفاكهة يشكل كارثة صحية؛ لأن هذه الأكياس معدة للنفايات وهي نتاجاً بلاستيكياً معاد تدويره ويمنع استخدامها منعا باتاً للطعام".
وقال حلس: "إن قرار وزير التموين الصادر قبل عشرين عاماً كان متماشيا مع نتائج فحوصات مخبرية دولية أجريت حول الموضوع في حينه وما قبل حينه، وقرارات اتخذت ضمن اتفاقات دولية وفلسطين جزء من تلك الاتفاقيات".
وعلى ما يبدو فأنّ مخالفة استخدام هذه الأكياس لن تنتهي قريبا في قطاع غزة، رغم ما نص عليه أيضاً قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004، في مادته رقم (20) في البند الثالث، والذي اعتبر أن المنتج الغذائي يصبح ضاراً بصحة الإنسان إذا كانت عبوته تحتوي على مواد ضارة بالصحة.
وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، قالت إنها ملتزمة بالعمل بموجب قانون الصحة العامة، لكن في المقابل يجب أن يكون هناك فحصوات مخبرية تؤكد أن هذه الأكياس تضر بصحة الإنسان.
وقال زكي مدوخ رئيس قسم الطب الوقائي (مراقبة الأغذية) بوزارة الصحة، "هناك دراسات عالمية تفيد باضراره، لكن ليس هناك إثبات رسمي ومستندات تؤكد هذا الأمر"، مشيرا إلى أن إمكانات غزة تكاد تكون معدومة في فحص هذه المنتاجات.
وأضاف مدوخ "هناك تعاون مشترك مع وزارة الاقتصاد والوزارات الأخرى المعنية من أجل الحفاظ على صحة الإنسان لكي يصل إليه الغذاء بشكل سليم وصحي"، مبيناً أن دورهم الرقابي قد يكون أكثر نشاطاً على العبوات المستخدمة في تعبئة المواد الغذائية داخل المصانع، وليس أكياس النايلون.
خلال زيارة قام بها معد التحقيق إلى أحد مصانع انتاج أكياس النايلون السوداء، تبين أن الحبيبات البلاستيكية المستخدمة في عملية الإنتاج والتي يصطلح عليها بـ"المجروش"، هي خلاصة مخلفات بلاستيكية يجري جمعها من الطرقات وحاويات القمامة، ثم يعاد طحنها واستخدامها، وواحدة من خصالها أنها ذات رائحة كريهة.
عندما وضعنا وزارة الاقتصاد في صورة هذه الحقيقة، قال كلُاب: "في أي بلد في العالم هناك أناس يعملون في منطقة ظلامية"، في إشارة إلى ممارسة غير سليمة تقوم بها مصانع، بعيداً عن أعين الرقابة.
وشدد كلُاب على أن استخدام البلاستيك "المجروش" مخالفاً قانوناً، وأنه تم ضبط الكثير من المخالفات في صناعات بلاستيكية متعددة، ولكن لم تسجل أي مخالفة لعملية تصنيع الأكياس السوداء.
وتبدو الرائحة على الأقل، واحدة من أبرز علامات عدم صلاحية هذه الأكياس للاستخدام في حفظ وتغليف الأغذية أي كان نوعها أوطعمها، كما قال تجار الأكياس البلاستيكية، غير أنها ليست كافية لإثبات هذه الحقيقة. ولهذا أجرى معد التحقيق فحصاً مخبرياً للمادة المكررة المستخدمة في عملية التصنيع، للكشف عن حقيقة محتويات هذه الأكياس ومدى تأثيرها على صحة الإنسان.
النتائج أظهرت أن هناك ارتفاعاً ملحوظاً في عنصر الرصاص (Pb)، وهو من العناصر السامة، وبلغت نسبته (5.02)، ولا يوجد مستوى معروف من التعرض للرصاص يُعتبر آمناً، وفق منظمة الصحة العالمية، غير أن المختصين أكدوا أرتفاع نسبته في المادة البلاستيكية.
إضافة إلى ذلك، فإن عنصر الكروم (Cr)وهو من العناصر السامة أيضاً يشهد ارتفاعاً وكانت نسبته (4.36)، فضلاً عن ارتفاع مستوى العناصر الثلاثة الأخرى ومنها -الرماد -Ash- 8%- الكادميوم (Cd) (0.28)- الباريوم (Ba) (34.9).
يقول مدير مختبر بير زيت للتحاليل البيئية، الدكتور أحمد المغاري، "بعد الحصول على نتائج فحص هذه العناصر الخمسة، نستطيع الحكم على أن المواد المستخدمة في عملية تصنيع الأكياس البلاستيكية السوداء، مواد خطيرة وضارة بصحة الإنسان".
وأكد المغاري أن 92% من تركيبة المواد الخام المستخدمة في تصنيع النايلون الأسود، هي مواد عضوية متطايرة، وتعد إحدى مسببات السرطان، مشيراً إلى أن نسب الكروم والرصاص كنعصرين سامين، لا يجب أن تصل إلى جسم الإنسان من خلال السلسلة الغذائية، لأنها مواد سامة تتراكم في جسم الإنسان وخصوصا في المخ، وبالتالي تؤدي إلى أمراض.
وقال "العناصر التي قمنا بفحصها هي عينات ممثلة لبعض العناصر السامة، وربما يكون هناك العديد من العناصر الأخرى الخطرة الموجودة في المادة الخام، لكن بموجب وجود مؤشرات على المواد السامة فإنه يمكن القول إن هذا الاستخدام خاطئ ويجب أن يوقف فوراً، ولا يجب أن تستخدم هذه الأكياس في مجال الأغذية أو ما شابه، وتنحصر استخداماتها في جمع القمامة".
فيما عقب مدير دائرة التنمية الصناعية في وزارة الاقتصاد محمد كُلاب، على النتائج قائلا: "منع استخدام أكياس البلاستيك ليس فقط لوجود عناصر سامة، ولكن لوجود مواد اشعاعية (..) أكياس النايلون ليست هي الأكثر تعرض للسمية، أنا أخاف من استخدام الحافظة البلاستيكية المعدة للشاي والسكر، أكثر من أكياس النايلون لأنها أكثر عرضة للسمية، وأنا فعلاً أراقبها أكثر من أكياس النايلون".
بيد أن زكي مدوخ رئيس قسم الطب الوقائي (مراقبة الأغذية) بوزارة الصحة، الذي حصل على نسخة مصورة من نتائج الفحص قال: " إذا ثبت لدينا بأن هذا النايلون به عناصر ثقيلة تضر بالانسان، مباشرة سنتحرك لمنع هذه الظاهرة (..) لدينا لجنة عليا لمراقبة الأغذية من مختلف الجهات الحكومية تلتأم بشكل شهري، وإذا تأكدنا من الفحوصات سنقوم بأخذ قرارات مباشرة لمنع استخدام هذا النايلون في ملامسة المواد الغذائية".
وبحثاً عن الحلول الآمنة للقضاء على هذه الظاهرة، التي تشكل خطراً على صحتي الإنسان والبيئة على حدٍ سواء. قدم الدكتور أحمد حلس، مدير التوعية البيئية في سلطة جودة البيئة، توصيةً باستخدام حقائب من القماش، وسلات بلاستيكية كبيرة في نقل المواد الغذائية، أو رفع أسعار تلك الأكياس اقتداءاً بالدول الأوربية من أجل الحد من استخدامها، وصولا لمرحلة التخلص الكامل والآمن من الأكياس البلاستيكية.
فيما قدم مدير مختبر بير زيت للتحاليل البيئية، الدكتور أحمد المغاري، نصيحة للمستهلكين، باستخدام أكياس النايلون البيضاء المسموح بها، خلال عملية شراء ونقل المواد الغذائية، والأكتفاء باستخدام السوداء كأغلفة لجمع القمامة.
ولكن في المقابل، فإن هذه الحلول تظل شكليةً ما لم تتعزز قناعة حقيقية لدى الجهات الرسمية بضرورة محاربة ظاهرة استخدام الأكياس السوداء تحت مظلة قانون الصحة وقرار وزير الاقتصاد. وهي بكل أسف لا تزال ترى (أي الجهات الحكومية) أن في طرح قضية من هذا النوع، شيء من الترف الإعلامي، وأن هناك قضايا أولى وأهم تستدعي المعالجة، من وجهة نظرها.
انجز هذا التحقيق بدعم من المركز الإعلامي المفتوح وبتمويل من الإتحاد الأوروبي .