في عالمٍ يزداد فيه التمركز الحضري والرقمي يومًا بعد يوم، تظهر الحاجة الفطرية إلى بحث البشر عن روابط مع الطبيعة وأشكال الحياة الأخرى دون وعي؛ وهو ما ينعكس إيجابًا من الناحية النفسية والعضوية عليهم.
ويُطلق على ميل البشر بالفطرة إلى الاندماج مع الطبيعة مصطلح البيوفيليا (Biophilia)، الذي يرمي إلى الاتجاه البشري الغريزي للسعي إلى الاتصال بعالم الطبيعة وما يترتب على هذا الاتصال العميق من آثار واسعة النطاق على حياتنا الاجتماعية والعملية؛ إذ يُساهم في تحقيق فوائد نفسية وفسيولوجية تساعد في الرفاهية العامة بشكلٍ أو بآخر.
في تأثير الطبيعة على مجال العمل، ألقت العديد من الدراسات البحثية الضوء على تأثير "البيوفيليا" العميق داخل مكان العمل. ومنها دراسة أجرتها شركة ((Terrapin Bright Green المتخصصة في مجال استشارات الاستدامة، إذ اكتشفت أن الموظفين الذين يعملون في بيئات تحتوي على عناصر طبيعية مثل الضوء الشمسي والنباتات الخضراء والمواد الطبيعية، أبلغوا عن زيادة كبيرة في الإنتاجية والإبداع والرضا العام عن العمل.
ووفقًا للدراسة، "تم ربط إمكانية الوصول إلى الطبيعة ورؤية الخارج بمستويات أقل من التوتر المهني ومستويات أعلى من الرضا الوظيفي". إلى جانب ذلك أشار تقرير صادر عن صحيفة الجارديان البريطانية إلى ملاحظتهم أن "دمج العناصر الطبيعية في بيئة مكان العمل يقلل من غياب الموظفين ويزيد من المشاركة".
تشير هذه النتائج إلى أهمية دمج مبادئ التصميم البيوفيلي في أماكن العمل، مثل النباتات الداخلية، والإضاءة الطبيعية، والرسوم الهادئة المستوحاة من الطبيعة، وتحديدًا في مساحات المكاتب لتعزيز الناحية التفاعلية للموظفين وأدائهم ورفاهيتهم.
بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر مفهوم وتأثير "البيوفيليا" على بيئة العمل فقط، بل يمتد أثرها إلى أبعد من ذلك، حيث تفاعلاتنا الاجتماعية وتعزيز انتمائنا وزيادة ترابط الأفراد. وأظهرت دراسة نشرت في مجلة "Frontiers in Psychology" أن التعرض للبيئات الطبيعية يرتبط بتقليل التوتر الاجتماعي ويُحسِّن الترابط بين العلاقات، ويُعزز الانتماء والترابط بين الأشخاص.
ويساهم دمج المساحات الخضراء في التخطيط الحضري وإنشاء مساحات مشتركة تحاكي البيئات الطبيعية في تعزيز الشعور بالمجتمع وتشجيع التفاعلات الاجتماعية. كما توفر المتنزهات والحدائق وأماكن التجمع في الهواء الطلق خلفية تسهل الاسترخاء والترابط ونوع المحادثات الهادفة الضرورية لتنمية العلاقات.
يأتي ذلك انعكاسًا لتأثيرات العيش في بيئة تدمج الطبيعة بالتخطيط الحضري من الجانب الانفعالي والبيولوجي، إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقوية الجهازين العصبي والمناعي وفقًا لما أشار إليه مختصون إلى إسهامه في تحسين الصحة النفسية والعقلية.
وأكدوا على أن البيئات الطبيعية تعزز التعافي من الإجهاد والتعب العقلي. وقد ثبت أن وجود الطبيعة حتى في شكل صور أو أصوات، يقلل من التوتر والقلق وأعراض الاكتئاب.
ويمكن للطبيعة أن تكون بمثابة ترياق قوي للتوتر ويمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على الصحة العقلية. كما ثبت أن قضاء الوقت في الظروف الطبيعية، وإشراك جميع الحواس، يخفض مستويات الكورتيزول ويحسن الرفاهية العاطفية بشكل عام.
تمتد تأثيرات البيوفيليا إلى جوانب أكثر اتساعاً في حياتنا اليومية، وتبقى تذكرنا بأنّ البشر على الرغم من وتيرة الحياة الحديثة السريعة إلا أنهم لديهم حاجة فطرية للطبيعة. إذ يمكن أن يؤدي دمج العناصر الطبيعية في أماكن عملنا وبيئاتنا الاجتماعية إلى فوائد ملحوظة لصحتنا النفسية والفسيولوجية.
ويُشار إلى أهمية دمج مبادئ التصميم البيوفيلي في التخطيط العمراني وإعطاء الأولوية للمساحات الخضراء لتعزيز انتمائنا للطبيعة في عالمٍ يزداد تحضرًا، حيث ينعكس دمجنا للطبيعة على صحتنا وتوازننا في كافة مجالات وميادين الحياة اليومية.
بيوفيليا