مشاعر السفر للمرة الأولى تبدو قديمة مألوفة للكثيرين، ولكن عندما يتعلق الأمر بسكان قطاع غزة المحاصر منذ 17 عامًا، تأخذ القصة أبعادًا مختلفة. إذ حُرمت أجيالاً كاملة من الخروج من غزة؛ إلا في حالات محددة وتحت شروط مقيدة مثل العلاج الطبي أو الدراسة أو الدعوة لحضور مؤتمر علمي في الخارج.
يتداول المسافرون من غزة قصصهم وتجاربهم في السفر على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد بدت تجربة السفر الأولى للغزيين الذين اعتادوا على مشاهدة العالم عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، كالأحلام التي لم يخيل لصاحبها أن تتحقق.
أحد هؤلاء هو محمد غباين الذي سافر من قطاع غزة إلى تركيا، يقول لـ "آخر قصّة": "رغم أنني كنت أمتلك كل مقومات العيش الكريم في بلدي؛ إلا أني شعرت دائمًا بشعور الأسير المحاصر والمنقطع عن العالم الخارجي. كنت أشعر بالحاجة الملحة لاستكشاف عوالم جديدة والانفتاح على العالم."
لم تكن رحلة وصول غباين إلى تركيا سهلة، بدءًا من عبور معبر رفح ووصولاً إلى المطار، استغرقت حوالي يومين كاملين ومرت بتحديات ومشاعر قاسية، خصوصا تجربة الترحيل.
غير أنَّ، مشاعر غباين تبدلت إلى سعادة واكتشاف عندما أتيحت له فرصة الجلوس بجوار النافذة في الطائرة، يقول: "كنت أتفحص جناح الطائرة وأرى العالم من حولي باندهاش، كانت تجربة الطيران هذه هي الأولى بالنسبة لي، واعتبرتها واحدة من أجمل تجارب حياتي. تمنيتُ بعدها أن ينال كل شخص يعيش في غزة فرصة مشابهة."
منذ وصوله إلى تركيا، لم يُفوِّت غباين فرصة الاستمتاع بالصباحات الهادئة في المناظر الطبيعية الخضراء المُطلّة على البحر، ومشاركة طيور النورس البيضاء وجبة الإفطار. ويصف تجربته بأنّها ساحرة لمحبي الطبيعة.
ورغم إعجابه بشكل الحياة في الخارج، إلا أنّ حنينه للأهل والوطن لم يهدأ، خاصّة في المناسبات الدينية كشهر رمضان والعيد،؛ لذلك، آثر إنهاء رحلته والعودة محملاً بذكريات دافئة تملأ قلبه.
أما انتصار محمد (33 عامًا) فتعبر عن تجربتها بالسفر للمرة الأولى لدولة الإمارات العربية، بأنها تجربة جميلة وممتعة وشاقة في ذات الوقت، فالحياة خارج أسوار غزة مختلفة تماماً، لا تتشابه حتى بعداد عقارب الساعة.
تصف محمد الحياة في الغربة خلال حديثها لـ "آخر قصّة"، "في الغربة، يمضي الوقت على مهل، دون انتظار انقطاع الكهرباء أو إغلاق المعابر أو حدوث عدوان إسرائيلي مفاجئ. وربما تكون الحرية والأمان هما أكثر مشاعر يفتقدهما سكان غزة، وهي مشاعر تُراوده بمجرد أن تستقبله بلادٌ تؤمن بالإنسانية."
تابعت انتصار، "وحدها أصوات الطائرات التي تحلق في السماء تُعيد للغزي ذكريات القصف والموت، كونه لم يعتد إلا على تحليق الطائرات العسكرية فقط في سماء بلاده".
وتلك الأشياء التي تُعدّ في الخارج من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، يعتبرها سكان غزة ترفًا، لانشغالهم في توفير أبسط أساسيات الحياة في ظلّ ارتفاع حادّ في معدل البطالة وتفشي لنسبة الفقر.
ومن مفارقات الحياة ما ذكرته انتصار عن تلك الأشياء، "ابتياع الماركات العالمية وامتلاك سيارة أو أكثر لكل عائلة، وتوفر الأماكن الترفيهية في البلد مثل المنتجعات التي قد تتجاوز مساحتها حيًا كاملا من أحياء غزة، كلها سمات للحياة بالخارج وهي كماليات وأكثر في بلادنا".
على نحوٍ قريب، كان أكثر ما أبهر أحمد إبراهيم (35 عامًا) عندما سافر إلى قطر، هو التقدم التكنولوجي الذي تتمتع به البلاد، كما لفتت انتباهه الحدائق الترفيهية المنتشرة التي تناسب العائلات وتوفِر الأمان والأدوات التي تساعد الأطفال في اللعب والاستمتاع.
وكان أحمد قد قرر السفر لحضور بطولة كأس العالم للعام 2022، وعن تلك التجربة يقول، "لاحظت انضباطًا عاليًا في القوانين العامة للمكان، وقد وظّف المنظمون جميع الأدوات لخدمة الزوار والمُقيمين في هذا الحدث العالمي".
أُعجِب أحمد بالانفتاح الثقافي الذي تتمتع به قطر، واحترام حريات الشعوب التي توافدت وتعدد دياناتهم، إذ تجاوزت المشاعر السلبية والعنصرية المحتملة في تجمع رياضي عالمي مثل كأس العالم.
وبفضل تجربته حظي أحمد بفرصة جديدة لاستكشاف أصناف جديدة من المأكولات المرتبطة بثقافات مختلفة، مثل الطعام اليمني والمغربي والإيراني، الذي يتميز بطعمه الفريد.
آلاء الجعبري هي أيّضًا حظيت بفرصة السفر من غزة، وقد سافرت لأول مرة وعمرها 27 عامًا، لحضور ورشة عمل خاصّة بالفن التشكيلي في مصر، وكانت تغمرها مشاعر الرهبة والحماس.
خلال تلك الرحلة، التقت الجعبري بمشاركين عرب، تقول: "لأول مرة ألتقي بأشخاص من جنسيات عربية مختلفة في مكان واحد ووجهًا لوجه، بعيدًا عن شاشات الهواتف وبرامج التواصل الإلكتروني، ورغم شعوري بالسعادة، لم تُغادرني الغصة".
على الرغم من حبها لغزة والحرية التي تتمتع بها داخلها من خلال عائلتها واستقلاليتها المادية، إلا أنها وصفت شعورها بالسفر "كالخروج من القفص"، إذ لا يمكن إغفال العواقب الاجتماعية والنفسية للحصار الطويل على الغزيين.
كانت زيارة المتحف المصري من أروع التجارب التي عاشتها آلاء، وتعرفت فيها بشكلٍ أعمق على الثقافة الفرعونية، كما لفتت انتباهها جمال العمارة وقدمها وأصالتها، التي يتوافد عليها السياح من جميع أنحاء العالم.
توافق جميع الأشخاص الذين التقتهم "آخر قصّة" على دهشتهم بلحظات السفر الأولى وعلى صعوبة الخروج من غزة. إذ يستغرق السفر وقتًا طويلاً وساعات من الانتظار، وتعبًا لا يوصف نظرا لطول مسافة الطريق البري من المعبر لمطار القاهرة.
إلا أنَّ "التجربة تستحق" كما أشار المعظم، فثمة تجارب لسفر غزيين للخارج محورية وملهمة وقدمت لهم الفرصة للاكتشاف والتعلم والتواصل. ومثلّت حافزًا قويًّا للنمو الشخصي والمجتمعي، ومصدر إلهام للشباب الآخرين في غزة للمضي قدمًا نحو تحقيق أحلامهم وتطلعاتهم.