لقد انقضى يوم أمس (يوم إعلان نتائج الثانوية العام)، واحتفل عشرات الآلاف من الأسر في الأراضي الفلسطينية بالنتائج، والتي تُعد من أهم الأحداث في المجتمع الفلسطيني. أصبحنا أبناء اليوم، الذي يقدم فيه السؤال: بأي كلية ستلتحق/ي؟
ويعد اختيار التخصص الجامعي، واحد من أصعب القرارات التي يواجهها الناجحون في الثانوية العامة والبالغ عددهم 87 ألف طالب وطالبة؛ ويزداد المرء حيرة اليوم على وقع التطور التكنولوجي والاقتصادي على حدٍ سواء، واللذان يلعبان دورًا في تَغيُّر مسار وتوجه العديد من الطلبة.
بدا واضحاً أن هناك جيلاً جديداً حسم أمره واتخذ قراره المصيري في وقت سابق لإعلان النتائج، إنهم ما يمكن أن نصطلح عليهم "جيل التكنولوجيا"، الذين يرفضون قيود التعليم التقليدي، ويرون في عالم الذكاء الاصطناعي طوق النجاة، الذي قد ينقذهم من الاصطفاف في طوابير البطالة لتخصصات لم تعد تواكب العصر، حسب أقوال الكثير منهم.
مصعب شاهين طالب الثانوية لهذا العام، والذي اقتحم سوق العمل عن بعد بالتوازي مع دخوله الثانوية العامة، وذلك بعدما طوّر مهاراته الحاسوبية من خلال تعلمه الذاتي على المنصات المختلفة عبر الانترنت، قال إنَّ مجالات العمل عن بعد غزت العالم، وإن الفضاء الالكتروني متاح لتعلم أي مجال مجانًا والعمل عليه؛ بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي المتوفرة بسهولة.
ويخوض حاليًا خريج الثانوية العامة شاهين، حربًا ضروسًا مع عائلته لقراره العزوف عن الدراسة الجامعية، مطالبًا إياهم بمنحه الرسوم الجامعية لاستغلالها في الحصول على دورات مدفوعة عبر الانترنت بدلًا من الدراسة النظرية التي قد لا تُجني ثمارها في كثير من الأحيان، وفق قوله.
ويتقاطع موقف الطالبة شهد إبراهيم مع سابقها، حيث تقول إنّها تُفضِّل التعلم الذاتي عبر الإنترنت فيما يتعلق بما أسمتهم "تخصصات المستقبل" ككتابة المحتوى والمقالات والتصميم والمونتاج، التي تزيد فرص العمل عليها عن بعد.
واستعرضت الفتاة إبراهيم أسباب قرارها برفض الالتحاق بالجامعة خلال حديثٍ لـ "آخر قصّة"، قائلة : "التعليم الجامعي لم يعد له مستقبل، وحتى التعليم المهني يتطلب تكاليف عالية، وربما قد لا تحصل على فرصة عمل بعد قضاء أربع سنوات من الكد والتعب العلمي والنفسي وحتى استنزاف المال عبر الرسوم ومتطلبات الدراسة، أما الانترنت فهو مجاني ومتاح للجميع ويحوز على كافة التفاصيل التي نحتاجها للمهنة والتعلّم في آن واحد".
لكن المختص التربوي خالد المزين، لم يتفق مع رؤية الطلبة العازفين عن الدراسة الجامعية بذريعة التوجه للعمل الحر، وقال: "إنّ التوجه للعمل الحر مسار مؤثر بوضوح على الطلبة، لكنه ليس عاملًا قويًا وسببًا يجعلهم يعزفون عن الالتحاق بالجامعات، فحصول الطالب على درجة البكالوريوس حتى وإن كانت خارج رغباته، تعتبر متطلب أساس، سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو العائلي".
ويسجل المزين ملاحظات تربوية على مجموعة من البرامج التعليمية في جامعات قطاع غزة، موضحًا أنّها بحاجة إلى مواكبة التطور في الثروة التكنولوجية والمعرفية الحاصلة حول العالم، وضرورة إعادة النظر فيها لتصبح على قدرٍ يُلبي رغبات الطالب وفرص العمل.
ودعا المزين وزارة التربية والتعليم للقيام بدورها التوجيهي والإرشادي التوعوي للطلبة، حول تلبية رغباتهم؛ لتمكينهم من الإبداع في مجالات دراستهم بما يتناسب مع الواقع التكنولوجي سريع التطور.
أمام جملة التحديات التي يواجهها طلبة الثانوية العامة في مرحلة ما بعد صدور النتائج، وجدل قرار الدراسة الجامعية من عدمه والظروف التي تحول أمام ذلك، توجهت "آخر قصّة" للتعرف على دور وزارة التربية والتعليم العالي تجاه خريجي الثانوية العامة.
يقول مدير عام التعليم الجامعي في وزارة التربية والتعليم العالي علي أبو سعدة، إنّ الوزارة واكبت التطور التكنولوجي وأطلقت بوابة المرشد الإلكتروني لتعريف الطلبة على التخصصات واختيار المناسب منها وفقًا لمهارات الطالب وقدراته.
ولا يرى أبو سعدة أنّ كل حالة تطور تكنولوجي هي حالة سليمة، مبينًا أن الجامعات اليوم تواكب التكنولوجيا حسب مقدرتها، وتُخرّج طلبة متفوقين تطلبهم البلدان الأخرى للعمل فيها.
بالإضافة إلى ذلك، يشدد أبو سعدة على أنّ الدراسة الأكاديمية لا تقارن بالدورات التدريبية على الإنترنت، ومن وجهة نظره فإنَّ الجامعة تبني قواعد وأسس علمية سليمة للطالب. وقال: "التطوير الذاتي إيجابي؛ لكن الشهادة الجامعية هي مفتاح العمل في المؤسسات الحكومية والخاصّة وغيرها".
غير أنّ، أبو سعدة يقر بوجود تخصصات دراسية "راكدة" كما أسماها في الجامعات الفلسطينية بحيث تخرج آلاف الطلبة العاطلين عن العمل. وأمام ذلك يُشير إلى جهود وزارة التعليم في التأثير على الطلبة نحو التوجه للتعليم التقني والمهني من خلال الفعاليات والأنشطة والورش التي يقدمونها للطلبة داخل المدارس.
وعن تلك التخصصات الجامعية التي لا تتلاءم مع سوق العمل، أفاد أبو سعدة بأنّ الجامعات لا يمكنها إغلاق تخصص اختاره الطالب لكنها تبذل جهودًا في توجيه اختياراته قبل التسجيل للدراسة، بينما لم يقدم معلومات حول إمكانية توصية الوزارة بإغلاق بعض التخصصات الجامعية التي لا تواكب العصر أو التطوير على أساليب تدرسيها.
وفي الوقت الذي يعزف فيه طلبة عن خوض غمار التعليم الجامعي، يضطر الآخرون إلى ذلك عنوةً تحت وطأة الظروف الاقتصادية التي تعانيها أسرهم. وعلى الرغم من عدم قبول الأسر الفقيرة التي نجح طلبتها بفكرة التوقف عن مواصلة مشوار التعليم بسبب انعدام مصادر الدخل، إلا أن فكرة اللجوء إلى اكتساب مهارة عبر الانترنت والعمل بها بدأت تتسلل إلى أذهانهم وتلقى قبولاً.
وشجعت والدة الطالب سامح عماد الذي حصل على معدل 82.7% فرع الأدبي، على البحث عن مهارة يمتلكها من خلال التدريب المجاني المتاح عبر الإنترنت والعمل بها من أجل مساعدة الأسرة في الإنفاق على نفسها، أو العمل في أي مهنة حرفية أخرى من أجل تجنيب أسرته عناء توفير الرسوم الجامعة.
سامح هو الأكبر سنًا في إخوته الذكور، يقطن في منزل عائلته في مخيم النصيرات مع والده المريض وأمه التي لم تكمل تعليمها ولم تستطع العمل، فتعاني الأسرة من محدودية الدخل بشكلٍ كبير. وفي ظلّ تلك الظروف قد يبدو أنّ خيار بحثه عن عمل لكف عائلته عن العوز هو أولوية الأسرة.
وعقّب على ذلك قائلًا، "كنت أودّ إكمال تعليمي ودخول الجامعة؛ لكن الوضع الاقتصادي لأسرتنا يقف حائلًا بين الحلم والواقع، أنا أوفر قوت عائلتي منذ أن كنت في الصف الأول الثانوي، وتوقفت من أجل تقديم امتحانات الثانوية العامة".
اليوم، سيعود سامح لجمع القليل من المال من عمله في المحالّ التجارية كما كان يفعل في السابق، دون تذمر أو اعتراض، يقول: "أقنعتني أمي أن العمل أهم من الدراسة في هذه الظروف، وأخبرتني أنّ الشاطر هو مَن يُحصِّل عمل في الوقت الراهن".
وهو ما أشار إليه مدير عام دائرة التعليم الجامعي في وزارة التعليم علي أبو سعدة، بقوله "شهدنا سابقًا إحجام بعض طلبة عن إكمال دراستهم، وهذا أمر طبيعي في ظلّ الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها سكان القطاع، لكن الوزارة تساهم في توفير منح وقروض وانظمة تقسيط الرسوم الجامعية لجميع الطلبة لا سيما المتفوقين منهم".
غير أنّ، القضية لا تقف عند توفير خيار تقسيط رسوم الدراسة بالنسبة لأولياء أمور الطلبة، فالأمر يتعلق بفرص العمل المحدودة في قطاع غزة، إذ بلغ معدل البطالة في القطاع 47%، بواقع معدل 75% في أوساط الشباب (19-29) من حملة شهادة الدبلوم المتوسط فأعلى.
وبحسب بيانات خاصة بوزارة العمل في غزة فإن النسبة الأعلى للخريجين في القطاع تركزت في قطاع التربية والدراسات الإنسانية بحوالي (40%)، وتلاها قطاع التجارة والإدارة (22%)، ومن ثم قطاع المهن الطبية بنسبة (10%)، و(7%) لقطاع العلوم الاجتماعية والسلوكية، وحوالي (6%) للمهن الهندسية، و(15%) لباقي التخصصات منها الصحافة والفنون والزراعة والطب البيطري والمهن الفنية والتقنية.
وحول مواكبة التخصصات الجامعية لفرص العمل، قال مدير دائرة التوجيه والإرشاد في الإدارة العامة لخدمات التشغيل في وزارة العمل بغزة، سفيان بحر، إنّ هناك تفاهم كبير بين وزارة العمل ووزارة التربية والتعليم فيما يخص اختيار الطالب للتخصصات المتاحة في سوق العمل.
لكن بحر أشار إلى ضرورة تعزيز الدور الحكومي تجاه طلبة الثانوية العامة وتوعيتهم في اختيار التخصص، مفيدًا بأنّ وزارة العمل تقوم بدورها التوجيهي في كل عام لتعريف الطلبة باحتياجات سوق العمل.
وبشأن وضع آليات لتنسيق الوظائف لتخفيف عدد الخريجين والبطالة القائمة، قال بحر إن "هناك برامج تقوم الوزارة بتجهيزها بالتوافق مع الجهات المعنية بالتوظيف، وعلى الجميع التضامن سويًا وبذل الجهد لتنمية المجتمع".