سريعاً ما يلحظ المتأمل للوحات الفنانة الفلسطينية دينا مطر توليفة من الحكايات المتشابكة، ما بين مراكب البحر الخشبية وألوانه الفيروزية، إلى جانب أشجار البرتقال بألوانها الأرجوانية، نسجتهم بتناسقٍ مدروس يُشكّل بصمتها الخاصّة في الرسم.
احتفظت دينا مطر (35 عامًا) بكمٍ هائل من ذكريات الطفولة مع جدها "صانع المراكب"، التي ساعدتها بشكلٍ أو بآخر على الرِواية بالرسم لتصبح لوحاتها اليوم سفيرتها في معارض أوروبية وعالمية.
وفي أصل حكاية مطر مع الفنّ، تقول، "كان جدي يعمل في صناعة السفن التي تُبحر من غزة للعريش، وقد عايشت معه تلك الأيام على شاطئ البحر، فتجسدت بوضوح على لوحاتي ولفتت انتباه الآلاف في غزة وخارجها".
تجتمع مجموعة من الصور والروائح المتقاطعة في ذكريات الفنانة التشكيلية مطر، وتتساقط على لوحاتها ألوان وفن، وتصف ارتباط تلك المشاهد بفنّها، "منظر خشب الكينا الضَخم خلال القصّ لصناعة السفن ورائحة الخشب المنشور مختلطة برائحة البحر، عشَشَت في ذاكرتي وأراها تخرج في لوحاتي تلقائيًا".
ولدت مطر في المملكة العربية السعودية لعائلة مُحِبة للفنّ، وقد انعكس هذا الحب في دعم موهبة صغيرتهم التي كرّس الجميع اهتمامه بها سواء دعمٍ نفسي أو مادي، ووجدت في السعودية عالمًا واسعًا من الألوان والأدوات التي ساعدتها على التجديف في بحر الفن في سنٍ مبكرة.
بدأت موهبة الصغيرة الفنيّة تظهر في صناعة الدمى والعرائس القماشية، ثم انتقلت إلى الرسم وصناعة اللوحات المدرسية لزميلاتها في المدرسة. تقول، "كنت أصنع تلك اللوحات كعمل خاصّ وأتقاضى عليها عائدًا ماديًّا وأنا في عمر 14 عام؛ مما أهلّني إلى الاستقلال والاعتماد على نفسي مبكرًا".
رويدًا رويدًا تشكّلت شخصية دينا مطر الفنيّة، إلى أن درست تخصص الفنون في الجامعة، وأنتجت العديد من اللوحات الفنيّة، إذ تندرج لوحاتها تحت إطار المدرسة التعبيرية التي تقوم على تمثيل ومحاكاة الطبيعة وتجسيدها، مع مراعاة الوصف الدقيق، كالانفعالات والأحاسيس الصادرة عن النفس.
في عام 2008 أقامت أول معرض شخصي لها، وتقول عنه في حديثٍ لـ "آخر قصّة"، "كان حصاد سنوات من التعب والأعمال الفنية المتراكمة دون أن ترى النور وقد شعرت بجمال الإنجاز حينها".
توالت بعده عدّة معارض أقامتها الفنانة دينا مطر وشاركت في غيرها، ومن بينهم معرض "آمال" الذي أقامته في مايو الماضي عقب انتهاء العدوان الإسرائيلي الأخير عن قطاع غزة، وتضمن مجموعة واسعة من اللوحات الفنيّة التي عبّرت فيها عن الأمل بغدٍ أفضل.
وخلال رحلتها الفنيّة شاركت مطر في عدّة معارض داخل فلسطين وخارجها، وحصلت على عددٍ من الجوائز والمنح من بينها عرض لوحاتها في الاحتفال الصيفي السنوي "City Days Art" في باريس، وآخرها حصولها على منحة الصندوق الثقافي الفلسطيني في رام الله.
وراء هذه الإنجازات كان لابد من داعم يحثك على مواصلة الخطى، مَن هو؟، تُجيب، "إنّه زوجي الفنان محمد الحواجري الذي كان أستاذي قبل الزواج، لقد دعمني لإكمال دراستي الجامعية في كلية الفنون، وشجعني على المُضي قدمًا في المشوار الفني، فكان كتفًا أستند عليها عند التعب، وأستاذًا يشاركني الآراء في الرسم رغم تباين أساليبنا الفنيّة".
يصفُ متابعو الفنانة دينا مطر لوحاتها بـ "المبهجة"، إذ ينسكب بحرٌ من الألوان الفاقعة على لوحاتها خلقته الخطوط الانسيابية وألوان الفرح التي تُميزها، خاصّة التي تُجسد فيها الغرز المرصوصة على ثوب مُطرز لسيدة فلسطينية، أو تلك التي تكادّ تنبعث منها رائحة برتقال يافا الشهير ذو اللون الأرجواني الفاقع.
وعن غرابة ذلك المزيج اللوني ورمزية "اللوحات المبهجة" في ظلَّ كل الظروف الصعبة التي يعيشها سكان قطاع غزة، عقّبت مطر، "اللوحات المبهجة هي الرمز الخاصّ بي، وهذه فكرتي في كل أعمالي، فالحياة ليست رمادية؛ بل ملونة وستبقى كذلك رغم كل الظروف".
توجهنا لمطر بتساؤل حول رأيها في بعض العبارات التي تتردد بأنَّه يصعُب الاعتماد على الفنّ كمصدر دخل في غزة، فأجابت، "هذه فكرة باتت قديمة لأنَّ الفن أصبح في تقدم مستمر وتخطى كل الحدود المُتعارف عليها على الرغم من وجود بعض المعيقات".
وأشارت إلى أنَّ الفنّ في غزة بدأ مؤخرًا ينفتح على العالم، وأصبحت أعمال الفنانين تُعرَض في جميع الدول الأوروبية والعربية بالخارج، على الرغم من صعوبة تَنَقُل الأعمال؛ بسبب المعابر الحدودية لقطاع غزة التي يفرض عليها الواقع السياسي قيودًا عديدة، لكن العملية مستمرة والإنجازات الفنية في غزة لا تتوقف، وفق قولها.
أما عن جهود الجهات الرسمية في قطاع غزة لدعم الفنّ، قالت إنها باتت واضحة لدعم الفن والفنانين من فئة الشباب والموهوبين أيضًا. وبشكلٍ عام ترى أن مستقبل الفن في غزة في تقدم، إذ ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة الفن في المحيط.
وتختم حديثها مع "آخر قصة" بقولها: "رسالتي الوحيدة من الفن هي إنّه سلاح سِلمي للمقاومة، وكل إنسان خُلق بالفطرة يحب وطنه ويحب الدفاع عنه بطريقته".