مع تجاوز عدد الإصابات بفيروس كورونا في قطاع غزة، حدود 700 حالة يومياً، قال أطباء إننا دخلنا فعلياً مرحلة الخطر الحقيقي، وإنه في الإمكان الآن إعلان القطاع "منطقة موبوءة". وهذا القول في عرف الطب ينطوي على تبعات خطرة جداً لأننا نتحدث عن أرواح ما يزيد على اثني مليون إنسان يعيشون ضمن نطاق كتلة خرسانية لا تتجاوز مساحتها 365 كلم2، ويتصرفون كمدينة واحدة.
الكارثة الكبرى، أن القطاع الصحي المتردي أصلاً يعاني نقصاً حاداً في أجهزة التنفس الاصطناعي، فضلاً عن المعدات الأُخرى ونقص الكوادر البشرية، وهذا في حد ذاته ينذر بأن الحالة الوبائية داخل غزة آخذة في التنامي والتفشي بشكل أكبر مما هو عليه الآن.
لا وقت الآن للتعامل مع الوباء بمزيد من الترف بعدما "وقعت الفأس في الرأس"، لكن حتى نقف على الحل، علينا أن نقف على المسببات التي آلت إلى هذه النتيجة المؤسفة.
ربما نجحت الحكومة التي تديرها حركة "حماس" في قطاع غزة، في تأخير وصول الفيروس إلى القطاع من خلال التدابير الاحترازية التي اتخذتها مع ظهور حالتي إصابة في النصف الأول من العام من خلال حجر العائدين من السفر، لكن الأمور تدهورت في النصف الثاني على نحو خالف التنبؤات والسيناريوهات المحتملة كافة.
في بداية ظهور الجائحة، وتحديداً في الرابع والعشرين من آب/ أغسطس الماضي عند اكتشاف حالات لا تتجاوز أعدادها أصابع اليدين، نجحت سياسات العزل في حماية المجتمع من تفشي الوباء، لكن انزلاق الحالة إلى هذا المستوى في عدد الإصابات، يعطي دلالة واضحة على أن الإجراءات المتخذة على الأقل خلال تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر لم تكن ترتقي إلى مستوى المنطق في مكافحة الوفاء.
أولاً: اعتمدت الحكومة سياسة إغلاق الأحياء الموبوءة، عبر فرض طوق أمني على حدود تلك المناطق التي صنّفت في حينه بـ"الحمراء"، فيما تركت الناس يمارسون حياتهم شبه الطبيعية داخل الطوق، تحت غطاء المناعة الجماعية أو مناعة القطيع.
ثانياً: قرارات فتح الأحياء وإغلاقها لم تكن تعتمد على آلية منطقية، بمعنى أنها كانت تفرض لمدة أسبوعين أو أقل قليلاً من دون تقييم الحالة الوبائية داخلها عبر أخذ عينات عشوائية من تلك الأحياء للتأكد من أن قاطنيها قد تعافوا.
ثالثاً: لم تراع القرارات مسألة النزعة الجمعية التي يتعاطى بموجبها أفراد المجتمع، إذ إنهم مأخوذون بالتآخي والمؤازرة سواء في الأفراح أو الأتراح، حتى في أسوأ الظروف الصحية كالتي نعيش الآن، وبتساهل وتسامح كامل من عناصر الشرطة.
رابعاً: التساهل مع الأفراد المخالطين، وغض الطرف عن بعض الممارسات الكارثية المتمثلة في السماح لهم بممارسة عملهم، مثل سائقي الأجرة مثلاً، وهذا ليس افتراضاً وإنما حقيقة.
خامساً: أتاحت عناصر الأمن الفرصة أمام الموظفين والطلبة للخروج والدخول من المناطق الموبوءة سيراً على الأقدام، وتراخت في تقييد الحالة داخل المتاجر والأسواق.
يُستنتج من جملة الإجراءات السابقة، أنه كلما أنحدر منحنى الإغلاق زاد منحنى الإصابة. أستند في هذا التقدير إلى ما شرحه الباحث محمد العكشية، الذي جمع بيانات تتعلق بحالات كورونا منذ بداية الأزمة؛ أي الإصابات اليومية وقرارات الإغلاق والتخفيف في المناطق، ووضع تمثيلاً بيانياً لها عبر منحنيات إحصائية، فوجد أن عمليات إغلاق المناطق، مع الأسف، لا تتناسب مطلقاً مع منحنى الإصابات، مع التأكيد على أن قرارات التخفيف كانت تصدر مباشرةً بعد قفزات واضحة في منحنى الإصابات!
نخلص هنا إلى نتيجة مفادها أن الإغلاقات الموضعية لا تحل المشكلة طالما أن العدوى تستشري والأرقام تبث الرعب في النفوس.
في المقابل، علينا ألاّ نغفل أن استمرار تمرد المواطنين على الإجراءات الحكومية، تارة بالاستخفاف وتارة بكسر الحواجز عبر التنقل من منطقة إلى أُخرى من دون مراعاة احتمالات نقل العدوى والمساهمة في تفشي الفيروس، أو حتى خرق قرار حظر التجوال المسائي، كان سبباً رئيسياً وراء هذا التضخم في نسب الإصابة.
يضاف إلى ذلك، استمرار حالة الإنكار من جانب المواطنين والادعاء بأن الفيروس مجرد كذبة والاستشهاد بالحالات التي لا تظهر عليها أية أعراض، في محاولة لنفي كل ما حذر منه الجهاز الصحي، وصولاً إلى النتيجة الحالية والتي دعا على أثرها أحد أعمدة القطاع الصحي بعد فقدان السيطرة على الفيروس، إلى الخروج عبر وسائل الإعلام وإعلان قطاع غزة منطقة منكوبة، وطلب دخول طواقم طبية إغاثية ومستشارين في مجال تشخيص فيروس كورونا وعلاجه، وأجهزة طبية ومخبرية من الاتحاد الأوروبي والدول المانحة.
يدافع البعض عن هذه الأفعال التي لا تنم عن وعي وثقافة كافية لدى فئة ليست بالبسيطة من أفراد المجتمع، بأنها تأتي تحت غطاء الفقر والعوز وبحث آلاف المواطنين (عمال المياومة) عن مصدر للدخل اليومي في ظل تضخم نسبتي الفقر والبطالة.
غير أن هذه الحجة تصبح باطلة، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن عدد الإصابات يتجاوز حاجز 13 ألف إصابة، بينها أكثر من أربعة آلاف حالة ناشطة، و57 حالة وفاة، وفق إحصاءات وزارة الصحة في قطاع غزة. وإذا اعتبرنا أن مجتمع غزة يتصرف كمدينة واحدة، فهذا يعني ألاّ مناص من إصابة كل فرد من أفراد المجتمع خلال أسابيع على أبعد تقدير، وهنا تكمن الكارثة!
وإذا افترضنا أنه يسجل يومياً 700 حالة مع زيادة مُطّردة، فمعنى ذلك أنه خلال 20 يوماً سنصل إلى أكثر من 14 ألف حالة ناشطة، 5% منها بحاجة إلى مشافي للعلاج، فهل تحتمل قدرة الجهاز الصحي هذه الأعداد؟
بالتالي، يصبح الحل الوحيد هو الإغلاق الشامل ولا شيء غيره، بصرف النظر عن الأصوات التي تنادي بالتعايش، فالتعايش يحتاج إلى جهاز صحي مؤهل قادر على استيعاب الكارثة، على عكس غزة التي لا يتوفر فيها سوى 110 سرير عناية فائقة، وتعاني عجزاً في الكادر البشري وشحاً في الأجهزة الطبية.
يحضرني هنا موقف أحد الآباء الفلسطينيين عندما حكم الاحتلال الإسرائيلي على ابنه بالسجن خمسة مؤبدات، فرد قائلاً: "يقولوا خمس مؤبدات ولا الله يرحمه." وأنا أقول اعتماداً على قاعدة "اثني مليون فقير، ولا كلمة الله يرحمهم،": لا مفر من الإغلاق الشامل من باب الاحتياط.