خاص آخر قصة
استسلمت أسرة المواطن الفلسطيني سعيد الديماسي إلى مياه الأمطار التي تسللت إلى مسكنها المتهالك وبللت الفراش والأغطية. وقضى أفراد الأسرة السبعة، ليلتهم وقوفاً على الأقدام، في انتظار جفاف أرضية المسكن.
في الصباح، انتشر صغار الأسرة في محيط المسكن بحثاً عن قطع النايلون من أجل تغطية السقف المثقب، "وقد عادوا بخفي حنين" كما تقول الأم.
تكره هذه الأسرة، ومعها أكثر من مئة أسرة فقيرة تقطن في حي واحد يدعى (نهر البارد) غرب محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، قدوم فصل الشتاء، إذ يعيشون جميعهم في بيوت من الصفيح وخيام مغطاة بالنايلون، لا تمتد بصلة للحياة الأدمية، يحيط بها تلال ضخمة من النفايات.
تضع زوجة "الديماسي" وعاءً بلاستيكياً في منتصف غرفة نومها لاحتواء الدلف، فيما يتسرب الهواء عبر شرخ عريض في الجدار المتصدع. تشير إلى الشرخ وتقول لـ(آخر قصّة) : "في الصيف تتسلل إلينا العقارب من هنا، وفي الشتاء يصير ممراً للبرد القارس".
تضيف الأم التي لم تكمل تعليمها الجامعي، "الذين يصفون حياتهم بالقاسية، لم يجربوا العيش بين أكوام القمامة والديدان والعقارب وروائح الحيوانات النافقة"، معبرةً عن أمالها بأن تحصل على مسكن صالح للحياة.
وتصنف عشوائية (نهر البارد) كأرض حكومية، كانت تخضع لسيطرة الاحتلال الاسرائيلي حتى عام 2005، مساحتها ما يُقارب الـ 50 دونماً. وتحولت فيما بعد مكباً للنفايات، فيما لجأ إليها عدد من العوائل الفقيرة بسبب عدم امتلاك مسكن ويقدر عددها بـ 150 عائلة، جميعها تعاني ظروفا اقتصادية خانقة.
خارج مسكن "الديماسي" وعلى بعد عشرين متراً تقريباً، يتصارع الأطفال أمام صنبور مياه مفلترة وهم يحملون زجاجات فارغة وجالونات بلاستكية، جاؤوا لتعبئتها. تقول طفلة تدعى ملك لم تتجاوز العاشرة من عمرها: "مذ جاؤوا بهذا المياه إلى هنا قبل نحو شهرين، ونحن نعتمد عليها في الشرب".
تشير الطفلة ملك وهي تضع دثاراً من الصوف فوق كتفيها، إلى أن أسرتها تعتمد على مياه البلدية الواصلة إلى المسكن، والتي تشير معظم الدراسات المحلية إلى أنها غير صالحة للاستخدام.
قالت الطفلة ذات البشرة القمحية لـ(آخر قصّة): "أمي تقوم بغسل ملابسنا في وعاء كبير لأنه لا يتوفر لديها غسالة كهربائية، وننام ليلنا اعتماداً على كاشف الجوال في ظل انقطاع التيار الكهربائي.. في إحدى المرات تعرض مسكننا للحريق نتيجة استخدام الشمع، ثم تخلينا عن استخدامه".
في الأثناء، كان يصارع عجوز في السبعين من عمره لوح خشبي محاولاً كسره، توطئة لإشعال النار، من أجل التدفئة. يكافح الرجل الذي يتناثر الشيب في ذقنه، قسوة البرد ببضعة ألواح خشبية يجمعها له أطفال الحي خلال ساعات النهار. ومع اقتراب المساء يشعل موقده لاستراق الدفء.
يرتدي العجوز ويدعى أبو محمود، كنزة صوفية بيضاء كانت قد صنعتها زوجته قبل أن تهرم ويهزمها العوز وينتهي بهما المطاف في "مستنقع الفقراء"، كما يصفه.
أبو محمود الذي يعتمر قبعة رمادية، يقول لـ(آخر قصّة) إن بيته لا يتوفر فيه فراش كاف، وأن الأغطية لا تستطيع أن تحجب برد الشتاء، ولولا أهل الخير لما تمكن من العيش هو وزوجته في هذه الظروف الاقتصادية القاهرة.
ومع دخول المنخفض الجوي، يجتمع سكان المنقطة على موقد النار ليلاً، وسط انعدام كامل لإجراءات السلامة والوقاية من فيروس كورونا، الذي تسبب في وفاة 48 مواطناً من كبار السن، فيما أصاب قرابة 11 ألف مواطن، حتى إعداد هذا التقرير.
يشتكي السكان هنا من عدم التساوي في الحقوق الأساسية وبخاصة الحق في الصحة، إذ أن جميعهم لم يحصلوا على مسحات للتأكد من إصابتهم بفيروس كورونا، من عدمه.
تتهم السيدة أم جاد نمر، وهي أم لخمسة أطفال، الحكومة التي تديرها حركة حماس في قطاع غزة، بصم آذانها عن شكاوى المواطنين القاطنين في هذه العشوائية، مشيرة إلى أن أطفالها يعانون ظروفاً صحية قاهرة نتيجة انخفاض دراجات الحرارة وعدم توفر لباس كاف لحمايتهم من آثر البرد.
وأكدت أم جاد، أنها تقضي ليلها بحثا عن زاوية آمنة داخل مسكنها الآيل للسقوط، كي تقي الأطفال رطوبة الأمطار وتباعد بينهم وبين احتمالات الخطر، مشيرة إلى أقصى طموحها أن تعيش هي وجيرانها في بيئة آمنة تحترم كرامة الأنسان.
وهذه العشوائية هي واحدة من أصل ثمان عشوائيات مقامة على مساحة (1354 دونم) موزعة على مختلف محافظات قطاع غزة، ويعيش عليها آلاف السكان ممن تقطعت بهم السبل ويعانون الفقر وانعدام المسكن. وتصف الحكومة في غزة، هذه المناطق بـ"التعديات"، وقد أزالت بعضها بعد نزاع مع السكان، فيما لا تزال هذه العشوائيات تصارع مخاوف هدم مساكنها التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة.