انضم أخيراً خليل سعيد (30 عاماً) إلى قافلة البطالة في قطاع غزة. بعدما كافح كثيراً من أجل الصمود لمدة أطول في مهنة بيع الصحف، لكن بلا جدوى. لقد فعلتها التكنولوجيا وقضت على مصدر دخله الوحيد.
عشر سنوات قضاها الشاب سعيد في بيع الصحف الورقية داخل مدينة غزة، يجوب الشوارع مستقلاً دراجته الهوائية التي كان يفيض صندوقها الخشبي بالصحف. وبعدما كان يُعطل حركة المرور عندما يستوقفه سائقو التكاسي لشراء الجريدة، أصبح الآن لا يجد من يكترث لصوته "جريدة .. جريدة"، باستثناء عشرة زبائن بالكاد استطاع الحفاظ عليهم.
أربع جرائد يومية توزع في غزة، هي (القدس- الأيام- الحياة- فلسطين)، وهي ذاتها الصحف الفلسطينية الرئيسية ناطقة باللغة العربية، ثلاثة منها تصدر في رام الله والقدس، وواحدة تطبع في القطاع.
مؤخرًا ونتيجةً لتأثيرات التكنولوجيا على الإعلام والحياة الاجتماعية، من سرعة انتشار الأخبار وتداولها عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية على الشبكة العنكبوتية سهلة الوصول، أصبح اقتناء الصحيفة ضربًا من الماضي، واقتصر تداولها على أوفياء "الزمن الجميل".
في ظلَّ هذه التغيرات أصبح صعبًا على بائع الصحف "خليل" وزملائه في المهنة من موزعي وباعة الجرائد، مواصلة عملهم كمصدر دخل وحيد، وغدا انضمامهم إلى طابورٍ من البطالة تزيد نسبته في صفوف الشباب عن 45% أمر حتمي، وبخاصة في زمنٍ يندر فيه رؤية أصحاب المتاجر يتصفحون الجرائد، ورواد المقاهي، والموظفين العائدين من أعمالهم.
وبسبب الانخفاض الحادّ في الإقبال على اقتناء الجرائد، تقلصت نسبة الأعداد التي تدخل إلى القطاع، بنسبة تزيد عن 95% من الكم الأساسي الذي كان يصل إلى 50 ألف صحيفة ورقية قديمًا، وفقًا للمسؤول عن استلام الصحف من معبر بيت حانون - ايرز، رفيق عدوان.
وقال عدوان في حديثٍ لـ "آخر قصّة"، "في السابق كان يدخل قطاع غزة كميات ضخمة من الصحف الورقية كنا نحتاج إلى شاحنة من أجل استلامها ونقلها، ولكن الآن أستلم ألف صحيفة فقط، أستطيع نقلها في حقيبة السيارة".
في المقابل، وحين يستلم البائع خليل الصحف يفكر ملياً أن يغير مسار توزيعها اليومي عله يظفر بزبون جديد، ولكن دون جدوى، فيعود أدراجه كي يعرضها على زبائنه الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وغالبيتهم يشترونها خجلاً من بائعها أو لمساعدته، أو طمعا في حلّ بعض الألعاب على صفحاتها كالسودوكو والكلمات المتقاطعة وغيرها.
وفي أحسن الأحوال يجمع دخلاً لا يكفي لإعالة أسرته المكونة من 6 أفراد، حيث يُقدر إيراده اليومي بـ 10 شواكل.
وفي أعقاب جولته اليومية التي تستنزف طاقة جسده النحيل، يحاول البحث عن فرص عمل مؤقتة مثل تنظيف واجهات المحال التجارية أو بعض أعمال النقل وحمل الأغراض أو الأثاث، وهي أعمال تعتمد في أجرتها على ما تجود به أيدي الناس.
بشكلٍ أساسي يعتمد بائع الجرائد في توفير مصروف أسرته على المساعدات التي تصرفها وزارة التنمية الاجتماعية للأسر المعدومة الدخل، إضافة إلى مبلغ ينفق عبر ما يعرف بـ"المنحة القطرية" المُقدّر بـ 100$ شهرياً والتي تصرف لتعزيز قُرابة مئة ألف أسرة فقيرة في القطاع، فيما يعيش 81.8% من الأفراد في غزة تحت خط الفقر الوطني؛ ما يعني أن ثلثي السكان يُعانون ظروفًا مادية قاسية.
ويعزو البائع خليل الحال الذي آلَ إليه من سوء الأوضاع المادية في مهنته إلى التكنولوجيا ويُكنّ لها بُغضًا شديدًا. فيما يُرجِع عميد كلية الإعلام في جامعة الأقصى غسان حرب، تقليص أعداد الصحف المباعة في قطاع غزة إلى مجموعة عوامل، أولها أنَّ الجمهور الفلسطيني غير قارئ، إذ إنَّ الإقبال على قراءة الصحف كان ضعيفًا جدًا حتى قبل دخول التكنولوجيا، وفق قوله.
وقال حرب مفسرًا عادات الجمهور الذي يعتمد جزء كبير منه على "القراءة الساندوتشية" بما يتضمن الاقتباسات والمقتطفات القصيرة والعناوين الرئيسية، لم يعد لديه صبر للقراءة الطويلة التحليلية والمعمقة، وأصبح المعظم يميل للسرعة والمضامين المختصرة في تلقي الأحداث بعيداً عن دور التثقيف الذي تقوم به الصحف.
أما ارتباط حياة الصحف واستمراريتها بالتكنولوجيا فقد أشار عميد كلية الإعلام في حديثٍ لـ "آخر قصّة" إلى أنّ الذكاء الاصطناعي الذي يغزو العالم الآن، قد يؤثر على بعض المهن بما فيها المهن الإعلامية وبالتالي قد تحدث تغييرات في طبيعة المنتجات التي تصدر عن هذا المجال.
لكن حرب عاد وأكّد على أن العديد من المؤسسات في دول العالم الثالث ما تزال تعاني من قصور كبير في التعامل مع التكنولوجيا وتطوراتها، وقال، "في الوقت الذي يهدد وجود الذكاء الاصطناعي العديد من المهن يخلق مهنًا أخرى يمكن الاعتماد عليها مثل مجالات التدريب والبحث التي لابد للمؤسسات أن تُركِّز عليها لتحافظ على بنية أساسية قوية يُرتَكز عليها".
وبين جدلية ما يمكن أن يقضي عليه الذكاء الاصطناعي من مهن، والأفق الذي قد يفتحه أمام مهن جديدة، من الواضح أن باعة الصحف ستسحب أقدامهم من الشوارع إلى غير رجعة، وستصبح هذه المهنة شئ من الماضي.