بينما كانَ الطيران يقصفُ غزة بعنفٍ صيف 2014، كانت السيدة المُكنّاة بأم "محمد عز الدين" حامل، وقد كانت تخشى وقتها الإجهاض نتيجة القلق الذي ينتابها وانعكاسه على أوضاعها الصحية.
انتهت الحرب بعد أيام وسَكن الدُخان المتصاعد من المساكن المُهدمة، وبينما كان الناس يتفقدون أوجاعهم، صرخ جنين "أم محمد" وخرج إلى الحياة.
لقد اتفقت السيدة وزوجها طارق، أن يُسميانه "علي". كبرَ علي وصار يحبو ثم تكلم ثم دخل الحضانة ومن ثم المدرسة. إلى أن عاد القصف في المرةِ المئة بعدَ الألف على غزة، بينما كان نائماً رِفقة أسرته، ولم يخطئه، لقد جاء على رأسه فقتله من الفور، هو وشقيقته وأبيه.
علِي طارق عز الدين، هو اسمٌ لطفل فلسطيني في ربيعه الثامن، بكاه معلموه في المدرسة وأصدقائه الذين كان من المُقرر أن يُشاركهم رحلةً مدرسية لولا أن قُتِل في غارةٍ إسرائيلية استهدفت الشقة التي يقطنها في حيّ الرمال وسط مدينةِ غزة بقصد اغتيال والده، وهو أسيرٌ محرر وقيادي عسكري في حركة الجهاد الإسلامي.
سأل "علي" ذلك الطفل الذي يشار إليه بالفطنة والذكاء، أمه قبل أيام "ماما اليّ بموت بتاكله الديدان؟" ردّت الأمّ متوجسةً بانفعال، "من وين بتجيب الأسئلة وشو خطر على بالك؟". ربما كان السؤال نابعاً من الشعور بالخوف الذي ينتابَ أطفالٌ كثر من الموت الذي تسببت به القذائف للمدنيين الفلسطينيين، لاسيما الأطفال والنساء.
رحل علي ومعه شقيقته ميار (11 عاماً)، رفيقة اللعب والمدرسة والتي نعاها الكثير من الأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي بمن فيهم أمهات تركت "ميار" أثرًا في حياةِ أطفالهم.
وقد كانا (علي وميار) طفلين بين 15 شهيداً ارتفقوا جميعا ليلة الثلاثاء التاسع من مايو الحالي، بفعلِ قصفٍ استهدف عدّة بناياتٍ سكنية في مناطق متفرقة من القطاع. أعقبها إعلان الاحتلال الإسرائيلي شنَّ عملية عسكرية على غزة أسماها "الدرع والسهم"، فيما لم تُبادر قوى المقاومة الفلسطينية إلى أيّ ردٍّ حتى كتابة هذه الأسطر.
"عليّ وما أدراكَ ما علي" قالت آية شاهين صديقة العائلة المُقربة، وأردفت، "هو مُختلف تمامًا عن إخوته، وعزيز قلبِ أبيه الذي كان يصفه بأنّ "طِباعه غزاوية"، في إشارة إلى أنّه يُشبه سكان غزة، أكثر من سكان الضفة ربما وهي مسقط رأس أبيه، الذي جرى إبعادهِ من الضفة الغربية إلى غزة ضمن صفقةِ تبادلٍ أبرمت عام 2011 بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
تُفسر هذا الوصف مروة نعيم، وهي مُعلمتُه في الفصلِ الثاني الابتدائي بمدرسة أوائل وقادة، قائلة: "علي شاب وليس طفل، مُختلف عن أيِّ طفل قابلتهُ في حياتي، رَزين وعقلاني وكتوم، يضعُ ساعة في مِعصمه ولا يتوقف عن حِساب الوقت من الحينِ للآخر".
بصوتٍ غالبته الدموع مراتٍ عديدة، عَادت مروة تَجمع الصِفات المُنفردة كلها في عليّ وتقول لـ "آخر قصّة"، "طالب متميز ومتفوق، مبدع وذكي جدًا، حتى أنّه لا يُشارك في الأسئلة الضعيفة ودائمًا ما أترك أسئلة الذكاء من نصيبه".
وكان يُعرف أنه يحلُم بدراسة الهندسة ولطالما نادته مروة بـ "يا بش مهندس" وكتبت له على الدفتر محفزةً وباللهجة الغزاوية "أجدع مهندس"، وتذكر أنّه صنع وسيلتين تعليميتين بيديه في ساحة المدرسة وشارك بهما في المعرض الكبير الذي أعدّته المدرسة لأعمال الطلاب.
"المعلمات بضربوا فيه المثل ودائمًا بتكرّم على منصة المدرسة" هكذا اختصرت زميلته يمنى قاعود حديثها فيه، لكن المعلمة مروة أسهبت في مدحه وهي تذكر عدد المسابقات والجوائز التي نالها خلال عامه الدراسيّ.
في ذات المدرسة، رافقته أخته ميار، والتي على الرغم من عدد طلبة المدرسة، إلا أنها كانت مميزة بينهم، كما قالت معلمتها سماح جعفر، وأضافت "كانت الطفلة معروفة بخُلقها الرفيع وإقبال الصغيرات على صُحبتها بشكلٍ غير عاديّ".
ويبدو أنّ تلك الاستثنائية قد حظيّت فيها الصَغيرة منذ قُدومها على الدُّنيا، فلمّا رُزقَ والدها طارق بها لم يَسعه الكون فرحةً بقُدُومها وخاصة أنّها جاءت بعد سنواتٍ من انقطاعه عن الإنجابِ بفعل تَغيُّبه داخل سجون الاحتلال.
لم تَكن وِلادتها بالهيّنة البَتة، فقد أنجبتها أمُّها بولادةٍ قيصرية صعبة وكانت قد وطأت غزة حديثًا بعدما فارقت الأهل في "جنين" بالضفة الغربية، وجاءت رفقةُ أبنائها "جميلة ومحمد" لتستقرَّ مع زوجِها في غزة.
لكنَّها كانت "كالنسمَة" هكذا وصَفتها شاهين "صديقة العائلة" التي لم تَصحو هي أيضًا من هوّل صدمتها بالفقد، وأضافت باكية، "بريئة للغاية، هادئة، ناعمة، ومحبوبة"، تقصد "ميار".
وعُرِف عن الصغيرة تميزها العلمي، إذ كانت تتبوأ مرتبة الشرف، عندما جَمعَت الأدبَ والعلم في آن واحدٍ على وصفِ صديقَاتِها.
كانت تحلُم ميار بدراسة الطبّ وكثيرًا ما ناداها أصدقاء العائلة ومعلماتها بـ "الدكتورة"، هي قدوة لزميلاتها ودائما تعتلي المنصة للتكريم في مجموعة "قائدات الإملاء"، وبشكلٍ منفرد عُرفت بأنّها رقم واحد في استعراضات المدرسة.
تقول المعلمة نعيم: "جميع مَن في المدرسة يعيش هولَ الصدمة، الأطفال يسألون كيف سنعود للفصول بلا علي وميار، حقاً لقد فقدنا فراشتين.. لا شيء يُعوضنا هذا الفقد الكبير؟".