"كانت الأسر المحيطة فينا يصحى الفرد فيها من النوم إما بحشش أو ببيع مخدرات.. كل البيئة كانت هيك، وبالتدريج صرت عبارة عن وصلة بين أبويا واللي بيجو يشترو وشوي شوي صرت أبيع لحالي"، قال الفتى فهد (اسم مستعار) الذي برزت ملامح البلوغ حديثًا عليه بخطيّ شارب خفيفين على وجهه، فيما هو لم يتجاوز السابعة عشر بعد.
الحدث "فهد" الذي كَبر بين يدي عائلة ممتدة تتعاطى وتروّج للمخدرات كان سيره في هذا الدرب الخطير بدافع من والده: "تعرّفت على المخدرات من خلال والدي، كان دائمًا يشرب مخدرات أمامي وهو بالأساس مهنته بيع الحشيش والحبوب".
وصف الحدث، البيئة التي نشأ فيها بـ "السيئة"، وأنّها كانت جاهزة ومُهيئة ليصبح هو أحد الأطفال الأحداث الذين اوقفوا على خلفية تعاطي وترويج المخدرات في قطاع غزة، والذين لم نستطيع معرفة أعدادهم نتيجة رفض الجهات المعنية في وزارة التنمية الاجتماعية بالتصريح بها، واكتفوا بالقول "إنَّ القضية لا ترقى لأن تصنف كظاهرة".
لكن جهة مُتطلعة أكدّت لـ "آخر قصة"، بأنَّ أعداد المُروجين من الأطفال أكبر بكثير من المتعاطين أنفسهم، خاصّة وأنهم يدخلون هذا الطريق من بوابة الترويج من خلال استغلال الكبار لهم وبخاصة الأقرباء من الدرجة الأولى "الأب، الأخ، الأعمام.. إلخ"، ثم يصلون تدريجيًا إلى وحل الإدمان.
كان ذلك ما حدث تمامًا مع الحدث "فهد" عندما ترك مقاعد الدراسة في الفصل الرابع (10 سنوات) وبدأ في هذا الكَار مُباشرة، وبعد نحوِ خمس سنوات دخل إلى عالم تَعاطي المخدرات الذي لم ينجو منه رغم محاولاته.
هل تَذكر المرّة الأولى التي تَعاطيت فيها مُخدرات؟ يُجيب، "بدأت أتعاطى في سنّ 15 عام بالتجريب والمزح من والدي لما قلي خدلك هالحبة جربها، وبعد هيك عجبتني لدرجة ما أقدر يعدي عليّ يوم إلا وأشرب نوع منهم".
ذلك الإدمان الذي سَلكَه الحدث وأسمّاه بـ "التعود" وتحدث عنه كروتينٍ عاديّ في حياته، فيما هو لم يُدرك أبعاده وتأثيره وأنَّ خطورته أقوى بكثير من فكرة تعود فقط، إذ تُشير تقديرات لمنظمة الصحة العالمية إلى أنّ المخدرات مسؤولة عن وفاة أكثر من 400 ألف حالة سنويًا.
غالبًا ما يمضي الأطفال في طريق الإدمان بعدما يستخدمهم ذويهم كأدوات مُساعِدة لإبعاد الشُبه عنهم في عملية البيع أو الشراء والترويج والمتاجرة، كما تقول المختصة النفسية والاجتماعية سجود المدهون.
وأشارت المدهون إلى أنَّ تعاطي وترويج المخدرات لم يقتصر على الأطفال الذكور فقط، وتروي حادثة مرت بها خلال عملها، فتقول لـ "آخر قصّة"، "جاءتني سيدة ومن خلال حديثي معها أخبرتني عن ابنتها التي تعرضت لضربٍ عنيف لأن والدتها منعتها أن ترسل مخدرات من عمها إلى الزبون".
وفيما تبلغ الفتاة من العمر (12 عامًا) ما يعني أنّها لا تمتلك القدرة على اتخاذ قرار رفض الولوج إلى هذا العالم بنفسها وأن تُصبح أحدّ الأدوات المُستخدمة في سلسلة الترويج للمخدرات عن طريق عمّها وهو متزوج ولديه أطفال صغار ومن الوارد جدًا أن يسيروا هم أيّضًا على ذات الطريق مستقبلًا.
بلاشك فإنَّ آثار هذه الظاهرة تمتد من الأسرة إلى نواحٍ اجتماعية أكثر اتساعًا، وفقًا للمدهون التي أكّدت على أنَّ المخدرات تتسبب في تفاقم المشكلات السلوكية والعلمية والأدبية لدى الفئة المنخرطة فيها، كما تؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية.
واتفقت الداعية شيماء علي، مع سابقتها في الإشارة إلى أنَّ الشريعة الإسلامية أفضت إلى اعتبار تعاطي المخدرات جريمة أخلاقية، وقالت: "أجمع الفقهاء على أنَّ المخدرات مُحرّمة شرعًا وأنًّ آثارها مدمرة للإنسان والمجتمع".
وأكّدت الداعية علي في حديثها لـ "آخر قصّة" على تحريم الشريعة الاتجار بالمخدرات بيعًا وشراءً وتهربيًا وربحًا تحريمًا قاطعًا كحرمة تناولها.
وبطبيعة الحال يتفاوت الوازع الديني بين الأفراد في مجتمعاتنا، الأمر الذي يقودنا إلى طرح تساؤل مفاده: ما موقف القانون من قضية تعاطي وترويج الأطفال للمخدرات؟.
هنا، يُجيب المحامي زياد الجوراني أنَّ القانون الفلسطيني جرّم جميع الأفعال المتعلقة بالمخدرات، وقال، "يُعاقب القانون على تعاطي أو ترويج المخدرات لكل ما هم دون الثامنة عشر بالسجن من 3-15 عام وغرامة من 5-20 ألف دينار أردني".
وجاء في المادة (2) من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية الفلسطيني لعام 2013، "يُحظر صنع أو إنتاج أو استيراد أو تصدير أو نقل أو تملك أو حيازة أو إحراز أو شراء أو بيع أو تسليم أو تسلم أو تبادل أو الاتجار أو تمويل أو تعاطي المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية أو السلائف أو صرفها أو وصفها طبيًا أو تسهيل ذلك أو التنازل عنها أو التعامل فيها بأيّة صورة كانت أو التوسط في شيء من ذلك إلا في الأحوال وبالشروط المنصوص عليها في هذا القانون".
لكن ماذا عن الأطفال الذين يتم استغلالهم للمُضي في طريق الإدمان؟ يوضح الجوراني لـ "آخر قصّة"، "القانون لم يُراعي العقوبة التي تحل على الطفل نتيجة جرمه لكن في طيّات المحاكم يتم التمييز في تطبيق العقوبة عليه".
إذا كان المتهم بجريمة تعاطي أو ترويج مخدرات أقل من 18 عام يُحال إلى محكمة خاصّة تختص بالقاصرين وتسمى محكمة "الأحداث"، وفقًا للمحامي الجوراني الذي قال إنَّ الهدف منها هو الإصلاح والتأهيل وفق نظام قضائي خاصّ.
وحول الإجراءات المُتَبعة مع هذه الفئة في محكمة الأحداث، أفاد مدير مؤسسة الربيع لرعاية الأطفال الأحداث- التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية بغزة- معتز دغمش، أنَّ الأطفال المتهمين في قضايا المخدرات لديهم يقسمون إلى قسمين وهما التعاطي والترويج.
وقال دغمش لـ "آخر قصّة"، "فور ضبط أطفال مدمنين مخدرات نتواصل مع مستشفى الطب النفسي وقسم الصحة النفسية في وزارة الصحة للقيام بدورهم في علاج الأحداث المدمنين الذي يمر بمراحل علاجية تختلف حسب العمر ومدة التعاطي".
أما الأطفال المروجين للمخدرات فيكون الحكم القضائي عليهم أقلّ من البالغين، بحسبِ دغمش، وأشار إلى أنّ الأمر لا ينغلق على العمر وإنما على مدى الدراية في التعامل مع المخدرات وإدراك خطورتها فكل حالة تأخذ جزاءها بشكل منفصل عن غيرها.
يبقى السؤال الذي يُراود الكثيرين بأنّ الأطفال في سنَّ الثامنة عشر إذا مرّت عليهم سنوات في هذه المستقنع الخطير، قد يكونوا أدركوا بلا شك مدى تأثيره على مستقبلهم، فهل حاولوا الفِكاك منه؟
يقول الحدث "فهد" إنّه جرّب أكثر من مرة أن ينأى بنفسه عن محيطه المكتظ بمدمني المخدرات من أهل والدته وأصدقاء والده وإخوانه الأكبر سنًا، وانتقل للعمل عاملًا في البناء، "حاولت أبعد عن المخدرات واشتغلت في الطوبار لكن لا إداري كنت أرجع".
قد يبدو طبيعيًا أن طريق العودة للمخدرات أسهل من الإقلاع عنها لطفلٍ لم يتجاوز الثامنة عشر فلا يمتلك من رباطة الجأش ما يُمكّنه من القيام بخطوةٍ كهذه وحده وسط محيطه المشجع جدًا على الإدمان، وفقًا للطبيبة النفسية سارة الوحيدي.
ويستخدم الطب النفسي برامج علاجية مع مدمني المخدرات خاصّة المراهقين منهم، تُوضحها الوحيدي لـ "آخر قصّة"، قائلة "يتم العلاج بأربعة خطوات، أولهم الفحص الطبي، ثم سحب السموم من الجسم بدون ألم وفق بروتوكول طبي دقيق".
أما الخطوة الثالثة في علاج متعاطي المخدرات هي العلاج النفسي، وقد وصفتها الوحيدي بـ "المرحلة الأهم" التي لا تكتمل الخطة العلاجية بدونها، إذ يُعالج المريض نفسيًا لمعرفة التغييرات السلوكية واستبدال السلبية منها بأخرى إيجابية وتعزيز الأفكار التي تنمي لديه رفض التعاطي.
وعن الخطوة الأخيرة في سلسلة علاج المدمنين، قالت الوحيدي، "آخر مرحلة هي التأهيل الاجتماعي ومنع الانتكاسة وفيها يُؤهل المريض اجتماعيًّا وتعليميًّا؛ ليتعايش مع بيئة سلمية بدون مخدرات ويُشبّع فيها بالحب والأمان الذي يمنعه من الانحدار".