في لحظةٍ ما ودون سابق إنذار يغير الطيران الإسرائيلي على مناطق متفرقة من قطاع غزة، بينما يتملك الخوف قلوب السكان المدنيين لا سيما الأطفال، الذين لا يملكون مساحة للهروب أو الاحتماء من قذيفة قد تضع حداً لحياة أحدهم، خصوصا أنه لا يوجد ملاجئ.
وفي حقيقة الأمر، لا يملك المدنيين في غزة في مثل هذه المواجهة العسكرية، إلا فتح نوافذ بيوتهم تحسباً لتساقط زجاجها على أوجه سكانها. وهذا الفعل غالباً ما تفعله الأمهات اللواتي يشغل تفكيرهن حماية أطفالهن.
وبينما كانت تُشير العقارب إلى الساعة الواحدة من منتصف الليل، كانت تحاول السيدة أماني عمر (34 عاماً) إخفاء قلقها على أطفالها. وقد جثمت فوق تلة من ملابس صغارها بعدما أخرجتها من الدولاب دون إدراك، وأخذت ترتبها مجدداً.
قالت أماني إنها تفعل ذلك بدافع فطري لإيجاد مبرر للبقاء بين أطفالها النائمين خوفاً من عملية قصف قد تطال محيط مسكنها الواقع غرب مدينة غزة وتفزعهم، وهرباً أيضاً من المتابعة الحثيثة للأخبار التي تبثها مجموعات التواصل الاجتماعي، عن مواطن الاستهداف التي يغير عليها الطيران.
رغم ذلك، استفاق أطفال أماني الثلاثة مفزوعين، بعد انفجار مدوٍ وقع على بعد كيلو متر تقريبا من مسكنها المتاخم لشاطئ البحر. تقول السيدة: "في مثل هذه اللحظات أشعر بالكثير من الذعر، احتضنهم.. أخبأ وجوههم في صدري وأربت على ظهورهم.. لا تخافوا يا ماما.. هذا كل ما بوسعي فعله".
وأضافت أماني التي تعمل في إحدى المنظمات الدولية: "في الواقع أشعر أن قدرتي على طمأنتهم تتلاشى مرة تلو المرة، لأن القصف فعل مستمر بين الحين والآخر، ويدفع أطفالي دائما لسؤالي: متى ينتهي العدوان يا ماما؟، وهذا دليل كاف على أنهم يشعرون بالخوف المستمر".
وشن الطيران الإسرائيلي قصفاً على مناطق متفرقة من قطاع غزة فجر اليوم الأربعاء (3 أيار/مايو) رداً على قذائف صاروخية أطلقتها قوى المقاومة من قطاع غزة، في أعقاب الإعلان عن استشهاد الأسير الفلسطيني خضر عدنان، المضرب عن الطعام في سجون الاحتلال منذ 86 يوماً.
وبينما كان يجري التراشق بالقذائف والصواريخ، لم تتوقف الشابة رولا محمد (20 عاماً) من سكان شرق جباليا شمال قطاع غزة، عن التواصل مع خطيبها للبت في قرار الاستمرار في ترتيبات حفل زفافهما المقرر مساء اليوم، من عدمه.
تقول رولا التي انحبس الدمع في عينها: إن عريسي لا يملك إجابة، وكلانا يتباحث مع أهله للوصول إلى قرار حول مصير الفرح، لكننا اهتدينا إلى تعليق الأمور إلى الصباح.. أنا أحبس أنفاسي في انتظار سماع نبأ حصول تهدئة بين الطرفين تقصد (إسرائيل والمقاومة الفلسطينية).
تضيف الفتاة وهي طالبة حقوق بجامعة الأزهر بغزة: "هل لك أن تتخيل كيف لفتاة تقضي ليلة زفافها وهي تبكي خوفاً وقلقاً من استبدال الفرح بالحزن نتيجة هذا العدوان!"، مشيرةً إلى أنها وخطيبها لن يستسلما لهذا الواقع ومصران على تحقيق حلم الارتباط. "نحن شعب يستحق الفرح" قالت وعينها تذرف دمعاً.
في المقابل، تمكن عبد الرحمن سعيد (25 عاماً) من إتمام حفل زفافه مساء الثلاثاء، قبل أن تبدأ "حفلة القصف" كما يصطلح عليها أهل غزة.
يقول عبد الرحمن وهو من سكان حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، لقد أنهينا مراسم الفرح مبكراً قبل أن تتصاعد وتيرة القصف.. كان من المقرر أن يستمر برنامج الحفل حتى الساعة العاشرة ليلاً، لكننا غادرنا قبل ذلك بساعة ونصف على الأقل".
ُيثير هذا الواقع الكثير من الأسئلة في أذهان سكان قطاع غزة الذين يعيشون حصاراً منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن، أهمها: لماذا لا تتوفر ملاجئ يمكن أن يحتمي بها السكان المدنيون؟
من الواضح أنه لم تسعى أي من الجهات المسؤولة محلياً ولم ترع المنظمات الدولية على الأقل، اقتراحاً كهذا من أجل حماية السكان المدنيين وتبديد مخاوفهم، منذ العدوان الأول على غزة خريف 2008، والذي استخدم فيه أشكالاً متعددة من الصواريخ الثقيلة.
ووفقاً لشهادات كبار سن ممن عاصروا هجمات جوية في حقبتي الخمسينيات والستينيات على غزة، فقد أقيمت الملاجئ بعد عدوان عام 1956 مباشرة، بقرار من الجيش المصري ، وتوزعت في ثلاث محافظات من أصل خمس على مستوى القطاع الذي تبلغ مساحته 365 كلم2.
تُشير المعطيات على الأرض إلى اندثار هذه الملاجئ بشكل كامل، ولم يذكر أي من أبناء جيل السبعينيات على الأقل شيئاً عن هذا التحصين الذي يستخدم لإيواء المدنيين خلال الهجمات العسكرية.
وعادة ما يتحصن السكان المدنيون كلما اشتد القصف، باللجوء إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، لحماية أنفسهم في ظل غياب الأماكن الآمنة.
يقول عبد الله أبو سالم (49 عاماً) من سكان شمال القطاع، "منذ 16 عامًا تتربع الحرب على الحياة اليومية للناس في هذا البلد المنكوب والقصف والقذائف ينهمران من السماء في أي وقت وأحياناً دون سابق إنذار، ورغم ذلك لم يفكر أحد في صناعة ملاجئ أسوة بدولة الاحتلال التي تدعو ساكنيها كلما اشتد القصف بالنزول إلى الملاجئ!".
وأضاف أبو سالم وهو متعطل عن العمل بفعل أمراض مزمنة يعانيها: "هذه كارثة حقيقة، أنه لا يوجد مكان آمن يمكن أن يحتمي فيه الناس، عدا عن أن الاحتلال لا يميز بين منشآت مدنية أو عسكرية، فكلها سواء تحت مرمى الصواريخ".
وتقر اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بضرورة حماية الأشخاص المدنيين في زمن النزاعات المسلحة، وهي تعتبر أول تنظيم قانوني واتفاقية دولية خاصة بحماية المدنيين خلال النزاعات. وتفرض اتفاقية جنيف، على الأطراف المتنازعة التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، ويشمل اصطلاح السكان المدنيين، كافة الأشخاص المدنيين المقيمين على إقليم الدول المتحاربة والسكان المدنيين المقيمين في الأراضي المحتلة.
وفي وصف المدني، تقول الاتفاقية، هو كل شخص لا يشترك (يقاتل) في الأعمال العدائية بشكل مباشر، وإذا ما أثير الشك حول ما إذا كان شخص ما مدنياً أو عسكرياً فإن صفة المدني هي التي تغلب، وتمتد هذه الحماية لتشمل المشاركين في الخدمات الطبية، وأعمال الإغاثة والصحفيين وأفرد أجهزة الدفاع المدني. غير أن الواقع يسجل انتهاكات دورية لكل ما ورد في تلك الاتفاقية.
إزاء ذلك، يقول الحقوقي الفلسطيني عصام يونس: "ارتكبت إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال ما يرتقي لمستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في عموم الأرض الفلسطينية".
وأضاف يونس الذي يتبوأ منصب نائب رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، "على الرغم من حقيقة ارتكاب تلك الجرائم ولا سيما خلال العدوان على قطاع غزة، إلا أن العدالة أبعد ما تكون عن التحقق، وتستمر التضحية بالمدنيين وحقوقهم، ويواصل الاحتلال ارتكابه للجرائم دون حدّ أدنى من الإنصاف للضحايا، ودون إعمال لقواعد القانون ولا سيما قواعد المحاسبة وضمان عدم إفلات المجرمين بجرائمهم".