عمر موسى- متراس
يشهد قطاع غزّة ظاهرة الاستثمار في البيوت والأراضي وتحويلها إلى مشاريع إسكانية، وذلك في ظل أزمة الإسكان الحادّة التي يعاني منها القطاع. يستغلّ المستثمرون ورؤوس الأموال الفقراءَ ممّن يملكون الأرض دون قدرةٍ ماديّة للبناء عليها، أو أصحاب البيوت المتهالكة غير القادرين على إصلاحها، أو غير القادرين على تأمين شققٍ لأولادهم. يستحوذ المستثمرون على ملكيّة تلك الأراضي والبيوت، ويقيمون عليها مشاريع إسكانيّة تحقق أرباحاً طائلة على حساب ضائقة الناس ومستقبلهم، في مقابل منحهم حصصاً ضئيلة جداً ومجحفة.
ملامح أزمة الإسكان في غزة
شَكّل الحصارُ الإسرائيلي وحروب الاحتلال وجولات التصعيد العسكري المتعاقبة على قطاع غزة ملامحَ أزمة الإسكان في القطاع. ففي جولات التصعيد الأخيرة، دمر الاحتلال أكثر من 230 وحدةً سكنية بشكلٍ كلي، سبقها تدمير أكثر من 11 ألف وحدة سكنية في الحرب الأخيرة عام 2014، عدا عن تدمير 300 وحدة في حرب عام 2012. وتدمير 3 آلاف وحدة في حرب عام 2008. ولا يزال واقع هذه الحروب حاضراً. ففي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019، ذكرت وزارة الأشغال، أن آثار عدوان الاحتلال على قطاع غزة عام 2014 ما زالت موجودة. إذ هناك 25 ألف وحدة سكنية غير قابلة للسكن وتحتاج لإعادة بناء كامل، من أثار العدوان، و60 ألف بحاجة لترميم.
تَبِعت تدميرَ الاحتلال اجراءات قوضت من إمكانية الإعمار وسيرّت العملية ببطءٍ شديد، عبر التحكم في إدخال مواد البناء. أبرزها كان بعد حرب عام 2014، إذ وضع الاحتلال بعد الحرب الأخيرة، آلية بالتنسيق مع الأمم المتحدة، لإدخال الإسمنت، سميت بآلية "سيري"، لمراقبة المواد الاسمنتية التي تدخل إلى غزة وأماكن استخدامها.
تحت آلية "سيري"، اتبع الاحتلال "سياسة التنقيط والابتزاز" في إدخال الاسمنت للقطاع. مثلاً، خلال ثلاث سنوات بعد عدوان 2014، سمح الاحتلال بإدخال حوالي 1.78 مليون طن من الاسمنت، وهو ما لا يتجاوز 30% من الاحتياج الطبيعي للأسمنت في القطاع. ومعنى الاحتياج الطبيعيّ هو الحاجة في أوقاتٍ طبيعيّة، دون حساب ما يحتاجه القطاع لإعادة إعمار ما هُدِم! أدى ذلك، لارتفاع أسعار الأسمنت ومواد البناء في القطاع، وصلت في بعض الأحيان إلى 1800 شيكل للطن الواحد.
ضَيّق الحصار الإسرائيلي وآلية "سيري" الخيارات المتاحة والممكنة للبناء والتوسع أمام المواطنين، إذ يحتاج قطاع غزة لبناء 120 ألف وحدة سكنية للتخلص من الضائقة الإسكانية الموجودة، عدا عن بناء 14 ألف وحدة أخرى بشكل سنوي لمراعاة الزيادة السكانية في القطاع.
استثمارٌ مضمون وخسارة بطعم الانفراج
دفعت هذه الأزمات كثيرٌ من المواطنين للبحث عن حلولٍ للتوسع المعيشي، خصوصاً من يعانون من تداعي بيوتهم واكتظاظها. هكذا، غدت الأزمة فرصة مشجعة للاستثمار. وصارت ظاهرة تحويل أراضي وبيوت غير المقتدرين ماليا إلى مشروعٍ سكني استثماري، مقابل منحهم شققٍ سكنية، من أول الحلول المطروحة لأزمة العائلات، ومن أكثر الحلول ربحًا بالنسبة لرؤوس الأموال.
بموجب هذه الآلية، يتنازل صاحب البيت أو الأرض، عن الملكية لصالح المستثمر، مقابل شقة أو اثنتين في المشروع الاستثماري الذي سيجري انشاؤه على أرض البيت. يجري العرض بحسب قيمة البيت واتفاقهما. مثلاً إذا كانت قيمة البيت أو قطعة الأرض تساوي ثمن شقة (30- 40) ألف دولار، يتسلم صاحب الأرض شقة، وإذا كانت القيمة أكثر، يجري بينهما تفاهم آخر.
لكن وفق حديث مقاولين، لا يتجاوز الاتفاق بين الطرفين في مثل هذه المشاريع، عن أكثر من شقتين ومخازن البرج السكني. فيما كل ما دون ذلك، يصبح ملكاً للمستثمر< علماً انه وبأقل تقدير، تضم الأبراج السكنية الاستثمارية 6 طوابق على الأقل.
تجري هذه العملية عادة في شكلين يلعبان دورا في تحديد السعر بين الطرفين. أولهما، أن يبادر صاحب البيت الذي يعاني ضائقةً بعرض المشروع على المستثمر، فيستغل المستثمر حاجة الطرف الآخر ليخفّض السعر. وثانيهما أن يقترح المستثمر المشروع على صاحب البيت، وعادة يرافق هذا الاقتراح اغراءاتٍ مالية لصاحب البيت، لضمان موافقته.
حتّى وإن كانت هذه الصفقات تُعقد "بموافقة" صاحب الأرض أو البيت، فمن الواضح أنّها تتأسس على علاقةٍ غير متكافئة واستغلالٍ لضائقةٍ ماليّة وسكنيّة لا تترك لصاحب الملك حيلةً أو منفذاً.
مخادعة وقصر نظر
إلى شمال القطاع، هناك، يقطن يوسف (اسم مستعار، محفوظ لدى هيئة التحرير)، صاحبُ بيتٍ من الأسبست بمساحة 120 متر، في منطقة "الهوجا" شمال معسكر جباليا، وهو أبٍ لـ8 أبناء، بينهم واحد متزوج في نفس البيت. حاول خلال الأعوام الماضية، بناء بيتهِ لكنه عجز بسبب حالته المادية.
نهاية عام 2018، عرض عليه مستثمر من منطقته، إنشاء عمارة سكنية تضم 8 طوابق محل بيته، وإعطاءه شقتين مقابل البيت الذي قدر المستثمر قيمته بـ60 ألف دولار لأنه قريب من شارعٍ عام.
بحسب ما قاله، رفض يوسف في البداية، لكن المستثمر زاد العرض إلى 10 ألاف دولار فوق الشقتين. هنا، تعرض يوسف لضغوطٍ من أبنائه لحاجتهم للتوسع وللسيولة المادية، فقبل بالمشروع. بعد تجهيزه للعمارة، عرض المستثمر الشقة الواحدة في العمارة للبيع بـ (40–60) ألف دولار، حسب درجة التشطيب.
يصف يوسف موافقته على المشروع بأنّها "خطوة قصيرة النظر"، ويقول إن الموضوع جيد من ناحية أنه "أوانا في بيت باطون منيح بدل ما كنا محشورين في الدار الأولى". لكنها انفراجة مخادعة، على حد قوله: "فالخسارة أكبر بكثير، لأنه سلبنا إمكانية التوسع مستقبلاً أو حتى الاستثمار في بيتي لصالح عائلتي وأولادي".
هكذا، يُترك حق الإنسان في غزّة أن يعيش في بيتٍ كريمٍ يأويه، بدلًا من بيتٍ أسبستيّ متهالك، رهينة للمساومة والخضوع لضغوطات المستثمرين.
بركات الحكومة
فشلت الحكومة بغزة في توفير مشاريع إسكانٍ أو دعم للفئات المتضررة، فهي من جهة، تركت معالجة الموضوع لصالح المشاريع الخيرية الخارجية، ومن جهةٍ ثانية، لم تدعم ذوي الدخل المحدود للبناء في أراضيهم وتحسين منازلهم. كذلك، يغيب الدور الحكومي في تنسيق شكلٍ قانوني خاص يضبط المشاريع الاسكانية الاستثمارية، ويراقب إطارها الجديد الذي يُعَرّض صاحب البيت/ الأرض للاستغلال من قبل رؤوس الأموال.
أيضاً، كان لخطوة خصخصة الأراضي الحكومية وتوزيعها على الموظّفين دوراً هامًا في تصعيد خطورة هذه الظاهرة ومستقبلها. إذ ضخت الحكومة أراضٍ عامّة من أراضي "المحرّرات" وأعطتها للموظفين بدلًا من رواتبهم المنقطعة منذ سنوات. وزّعت الحكومة الأراضي على موظّفين دون قدرة ماليّة على استخدامها، ودون معرفةٍ في كيفيّة إدارة هذه الأرض والاستفادة منها.
عمليًا، تركت الحكومة الموظّفين يقارعون سماسرة الأراضي وحدهم بعد أن خفض السماسرة أسعار الأراضي إلى ما بين 50% إلى 60% بسبب ازدياد العرض، وبسبب مساعي خبيثة من قبل المستثمرين لخفض الأسعار. فاضطر كثيرٌ من الموظفين إلى بيع الأراضي بخسارة تقارب نصف السعر لصالح السماسرة. كل ذلك، ترك الميدان مفتوحا أمام هيمنة رؤوس الأموال على قطاع العقارات في غزة وسط الأزمة المتفاقمة.
يقبضون ثمن الصمود
تفتح هذه الظاهرة نافذةً على أشكالٍ عديدة تُستغل فيها مأساة غزّة من أجل تحقيق أرباح رؤوس الأموال. في هذه الحالة، نحن أمام خسارة فادحة لمورد الأرض الذي من شأنه أن يؤمّن مستقبل العائلة وإمكانيّة توسّعها واستمراريّتها وتشييد بيوتها بكرامةٍ. تحت هذه الظروف، تخسر العائلات مستقبلها لتؤمّن سقفها اليوم، لها ولأولادها، بعد أن انعدمت الإجابة الملائمة من قبل حكومة غزة.
مسؤوليّة الحكومة أن تؤمّن مساكن كريمة تليق بأهل غزّة، وأن تكون رأس حربةٍ في سدّ هذه الاحتياجات بكافة الطرق الممكنة. انسحابها من هذا المضمار يُفسح المجال لرؤوس الأموال ليستغلّوا الكارثة الإنسانيّة من أجل زيادة الملايين التي يراكمونها، ومن واجب الحكومة، على الأقل، أن تكبح هذا الجشع المُعيب الذي يقبض ثمن صمود الناس.