قال الفلاسفة وأهل العلم قبل عقود خلت "لم يقف الفقر حجر عثرة أمام التعليم". ربما لأنهم لم يجربوا التعليم عن بعد الذي فرضته جائحة كوفيد 19.
لقد تجاوز الفقر حدود المنطق في تعطيل التعليم عن بعد في الأراضي الفلسطينية بصورة عامة، وقطاع غزة بصورة خاصة الذي تزيد نسبة الفقر فيه عن 64%، إذ لا تتمكن فئة كبيرة من الأطفال، وخصوصاً في المناطق المهمشة من التعلّم، بفعل انقطاع التيار الكهربائي وأزمة دفع فاتورة الإنترنت، إلى جانب معضلة أعمق تتعلق بالعجز عن اقتناء أجهزة لوحية أو حواسيب.
ينص القانون الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية في المادة (24) على أن: "التعليم حق لكل مواطن، وإلزامي حتى نهاية المرحلة الأساسية على الأقل، ومجاني في المدارس والمعاهد والمؤسسات العامة. وتشرف السلطة الوطنية على التعليم كله وفي جميع مراحله ومؤسساته وتعمل على رفع مستواه."
على أرض الواقع يبدو هذا النص مجرد حبرٍ على ورق، إذ تمثل حالة التعليم الإلكتروني القائمة الآن انتهاكاً لهذا الحق، فشكل التعليم القائم ونوعه لا يحقق شرط عدالة الوصول إلى جميع المراحل والفئات المجتمعية في مختلف أماكن سكناهم.
بكل أسف، جولة واحدة على المناطق الفقيرة في هذا القطاع المنهك بفعل الحروب والحصار، كفيلة بأن تؤكد حقيقة أن التعليم الإلكتروني بالنسبة إلى هذه الفئة المجتمعية، يعد ترفاً. إن حرص الناس هنا على المأكل والمشرب وتوفير سبل العيش أولى وأهم بكثير من البحث عن تقنيات للتعلم.
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن التوزيع النسبي للأسر التي تتوفر لديها خدمة الإنترنت داخل البيت في قطاع غزة خلال سنة 2017، بلغت (62.0%)، فيما بلغ معدل امتلاك كمبيوتر مكتبي (9.0%)، في حين بلغت نسبة امتلاك هاتف ذكي (75.5%)، ونسبة امتلاك تابلت وآيباد (14.3%).
لو افترضنا حقاً، أن الأغلبية من الناس تمتلك هواتف ذكية، فإن هذه الوسيلة ليست كافية لأن تخدم طلبة الأسر الفقيرة والمعوزة بشكل يومي، وخصوصاً في ظل رداءة الإنترنت، وعدم توفر الطاقة للشحن بشكل دائم.
وفي أحسن الأحوال التي يُسمح فيها لتلك الأسر باستخدام الهواتف الذكية، فإنها تواجه مشكلة إضافية تتعلق بعدم القدرة على تحديد جدول زمني منصف لكل فرد من أفرادها، يجنبها وقوع نزاع بين الأشقاء على وقت الشاشة الثمين خلال ساعات وصل الكهرباء، فلكل منهم دروسه وواجباته المتعددة.
وتظهر نتائج مسح أثر جائحة كوفيد 19 (كورونا) في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأسر الفلسطينية، خلال شهري آذار/مارس ونيسان/أبريل 2020، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أن نصف الأسر تقريباً حُرم أطفالها التعليم عن بعد.
ووفقاً للإحصائية فإن 49% من الأسر حُرم أطفالها المشاركة في النشاطات التعليمية بسبب عدم وجود إنترنت، بينما لم يشارك 22% منهم بسبب عدم قيام المدرسين بتنفيذ نشاطات تعليمية، و13% من الأسر كان عدم مشاركة أطفالها يرجع إلى عدم رغبة الطفل في تنفيذ النشاطات التعليمية.
كل ذلك يعطي نتيجة مؤكدة وحتمية، بأن التعليم يعيش أزمة حقيقة اليوم، على الرغم من مرور أشهر على انتشار جائحة كورونا، الأمر الذي يستدعي الكثير من الأسئلة عن دور المؤسسة التعليمية وجهودها خلال تلك الفترة في إيجاد تعليم متكافئ لجميع الفئات المجتمعية في مختلف أماكنها!
مع مرور الوقت سنكتشف أن مستوى التعليم لدى الأسر الفقيرة قد تدنى بشكل كبير، ولا سيما إذا استمر إغلاق المدارس في وجوه الطلبة، ولهذا فإن وزارة التربية والتعليم مطالبة بالكشف عن خططها تجاه إدارة العملية التعليمية في الوقت الراهن، إذ لا يعقل أن يبقى مصير هؤلاء الطلبة معلقاً على شماعة الظروف والإمكانات.
قبل عشرة أيام سمحت وزارة التعليم في غزة، لطلبة الثانوية العامة بالعودة إلى مدارسهم، وفق آلية خاصة، تعتمد على حضور الطلبة ثلاثة أيام في الأسبوع، مع إلغاء بعض المقررات الدراسية. في حين أن طلبة فصلي العاشر والحادي عشر ما زالوا ملتزمين التعليم عن بعد، إلى جانب المرحلتين الإعدادية والابتدائية.
قرارٌ كهذا لم يحل المشكلة، فالمساواة هنا لم تتحقق بين جميع الفئات والمراحل التعليمية، صحيح أن مستوى الوعي بخطورة الفيروس ودواع الحذر أكثر لدى فئة طلبة الثانوية العامة، من طلبة المراحل الأُخرى (الإعدادية والابتدائية) لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال استمرار حرمانهم من التعليم الوجاهي بصفته يساوي بين جميع فئات المجتمع.
كان واضحاً كما يفيد كثير من أهالي المراحل الدنيا، أن التعليم الإلكتروني يخضع في كثير من الأحيان إلى أهواء وتقديرات بعض المعلمين، أكثر منه عملاً يرتبط بقرار رسمي، إذ قدمت بعض المدارس محاولات خجولة لإبقاء الطلبة على إطلاع مباشر على ما تبقى من منهاج، لكنها محاولات لم ترتقِ إلى شكل التعليم عن بعد، وكانت تعتمد على جهد الأسرة.
في موازاة شكوى الأهالي وطلبة المناطق الفقيرة والمهمشة، يقرُ معلمون/ات بأن التعليم الإلكتروني الذي اعتمدته وزارة التربية والتعليم ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) لكل من المدارس الحكومية ومدارس الأونروا، لا يزال يواجه كثيراً من العراقيل، وخصوصاً عدم قدرة بعض المعلمين/ات على التعامل معه.
لا يجب أن نغفل أن عدداً من المعلمين/ات ولا سيما ممن تجاوزوا الخمسين عاماً، يجدون صعوبة في التعامل مع التكنولوجيا ويجهلون طرق التواصل مع الطلبة، وهذا يكشف قصوراً واضحاً في تأهيل هؤلاء المعلمين/ات.
وبالتالي، يمكننا الوصول إلى نتيجة مفادها أن التعليم الوجاهي أصبح مطلباً ضرورياً الآن في ظل عدم تكافؤ فرص الطلبة في التعليم الإلكتروني، مع ضرورة اتخاذ جميع التدابير الاحترازية اللازمة لحماية صحة الطلبة من الفيروس.
المؤسسة التعليمية الآن أمام اختبار حقيقي، فإمّا أن تستأنف التعليم الوجاهي أسوة بمختلف القطاعات والمناحي الحياتية التي بدأت تعود إلى سابق عهدها في غزة تحت وطأة "التعايش"، وإمّا أن توفر تعليماً إلكترونياً متساوياً لجميع الفئات المجتمعية، وإلاّ فنحن نعيد فتح الباب مجدداً أمام الأميّة.
وإلى حين اتخاذ قرار فاصل، فإنه من الضروري توظيف الإشراف التربوي الرقمي على عمليات التعلم والتعليم لضمان وصوله وجودته، إلى جانب أن تسارع وزارة التربية والتعليم إلى الاتفاق مع شركات الاتصالات والكهرباء لتوفير آليات تمكّن طلبة المناطق المهمشة من التعليم أسوة بغيرهم من الطلبة داخل القطاع.