"الكورنيش" مساحة خريجين لإقامة مشاريع صغيرة

"الكورنيش" مساحة خريجين لإقامة مشاريع صغيرة

لابد أن فريقًا عريضًا من أبناء جيل الثمانينيات والتسعينيات يعوون جيداً، أغنية "على الكورنيش" للفنانة السودانية "جواهر"، صاحبة الشعر المُجعد والبشرة السمراء. كلمات الأغنية يحفظها يزن (32 عاماً) كغيره من الشباب الفلسطيني ويدندنها في لحظات هيامه وهو ينظر إلى شاطئ بحر مدينة غزة خلال ساعات عمله. 

وإذا كانت المطربة جواهر قد أخذت من كورنيش مصر مكاناً لتصوير أغنيتها الشهيرة، فإن يزن اتخذ من كورنيش غزة، مساحة لاستجلاب الرزق لأسرته من خلال بيع عَرانيس الذرة، ويشاركه في الأمر المئات من الشبان الذين ضاقت بهم سبل العمل بحكم انعدام الفرص وتضخم نسب البطالة في القطاع.

كان "يزن" شاباً طموحاً، تخرج من الجامعة بمعدل جيد جداً في تخصص تكنولوجيا المعلومات، ولم يكن يرغب في العمل في مهنة غير تخصصه، لكن الظروف المادية التي كانت تواجه عائلته أجبرته على بيع الذرة على كورنيش بحر مدينة غزة وهي المدينة الأشدّ اكتظاظاً على مستوى العالم، حيث يقطنها أكثر من 590 ألفاً، على مساحة جغرافية تبلغ 45 كم².

واضطر يزن لهذا العمل بعدما عجز عن الحصول على فرصة عمل في مجال تخصصه، ويقول إنه عمل مرهق وشاق، لكنه يعمل بجدّ واجتهاد من أجل إطعام أسرته التي فقدت الأب قبل عامين.

يستيقظ الشاب الثلاثيني في الصباح الباكر ويذهب إلى السوق أولاً لشراء الذرة من التجار، ثم يعود ليحضر موقد الشواء. يوماً بعد يوم تمكن يزن المعروف بابتسامته الدائمة وحسن المعاملة من تشكيل قاعدة من الزبائن الدائمين.

وقال يزن وهو يُقلِّب أكواز الذرة المرصوصة أعلى الموقد، "تمطرني أمي كل صباح بالدعاء، وتقول لي ربنا يحبب فيك خلقه"، في محاولةٍ منه للاستدلال على محبة الزبائن له.

ويضيف بائع الذرة في حديثه لـ "آخر قصة": "في العالم عموما عندما يتخرج الشاب يكون أمامه فرص متعددة للعمل، بينما نحن في قطاع غزة ليس أمامنا من سبيل إلا العمل في مهنةٍ شاقة ولا تتناسب مع شهاداتنا الجمعية بسبب الفقر وانعدام فرص العمل".

وتبلغ نسبة البطالة في قطاع غزة أكثر من 45% وفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وهرباً من واقع الخروج في البطالة لجأ يزن إلى هذا المشروع الذي قال عنه إنه مشروع مؤقت يمكن البدء منه للانطلاق نحو حياة كريمة، لاسيما أنه يعمل بجد من أجل إطعام أسرته وتوفير المال لتحسين أوضاعهم المادية.

وفي السابق كان يرتبط موسم بيع الذرة بفصل الصيف، غير أنَّ الأمر قد تغيّر وأصبح بيعها غير مقرون بموسمٍ محدد، علماً أن المنخفضات الجويّة تحدّ أحيانًا من بيعها. يقول يزن. كما أنَّ للذرة مكانةً متميزة في قلوب الغزيين عامةً الذين يتناولونها مسلوقة ومشوية ويبتكرون طرقًا لإضافتها في الشوربات والسلطات المنزلية بجانب الأكلات فهي محبوبة الجماهير بأشكالها المتنوعة.

ويشير الشاب وهو يُقدم كأس ذرة ورقي لأحد الزبائن إلى أنّهم قد أوجدوا بدائل لجذب الزبائن، وبدلاً من العرانيس المشوية أو المسلوقة، أصبحت تقدم حبيبات الذرة في أكواب ويخلط معها الزبدة والشطة والملح، وآخرون يقدمونها في زبدية فخارية ويمزجون حبيبات الذرة بالجبن الأصفر والليمون.

وقد ساعد هذا التعدد في تقديم الذرة، في استمرار مهنة بيع الذرة طوال العام، وفقًا ليزن الذي قال إنّ البيع لم يعد يقتصرًا على موسم الصيف، إذ يمكنك مشاهدة مظاهر الانسجام بين الأصدقاء والأزواج وهم يتناولون الذرة على شاطئ البحر ويتبادلون في حبّها كلمات الغزل طوال العام.

ويفعل آخرون من حملة الشهادات العلمية مثل يزن. ويعتبرون أن بيع الذرة هو مشروع العمر بالنسبة لهم في ظل العجز عن الحصول على فرصة توظيف، فيما أنه لايزال هناك أمل بالهجرة إلى أوروبا أو أي مكان في العالم بحثاً عن مصدر دخل، وحتى هذه تتطلب تكاليف باهظة تتجاوز الـ4 آلاف دولار، وهي قيمة لا يقوى عليها الخريجون الجدد.

ويقول أمجد علي، وهو شاب في أواخر عقده الثاني، بيع الذرة يعتبر مشروع بسيط وغير مكلف، فهو لا يتطلب إلا توفير موقد يعمل على الحطب والقليل من المال لشراء الذرة سواء الطازجة أو المجمدة. ومن ثم تحتاج إلى "لسان لطيف وهندام نظيف"، يقصد بائع لطيف يمكن أن يوقع الزبائن في شرك شباكه بلطف معاملته وحسن لباسه.

وعلى الكورنيش وتحت أشعة الشمس ولهيب الحطب أو كما وصفت الفنانة جواهر "عز الظهرية.. ع الكورنيش"، يقف الشاب علي، مدللاً على بضاعته، وهو ويقلب العرانيس حيناً ويبتسم في وجه المارة حيناً أخر، والذين يتخذون من الكورنيش مساحة للترويح عن النفس في ظلّ انعدام الأفق الاقتصادي والسياسي.