يجمع محمد جرادة (39 عاماً) من مدينة غزة، العملات والطوابع القديمة منذ 25 عامًا حتى أصبح اليوم ينظر لها بمثابة كنز وثروة تاريخية ويرى أنَّ لكل طابعٍ وعملة جمعها تاريخ يستحق أن يُروى ويورث للأجيال القادمة.
يقول جرادة: "منذ صغري كنت أشعر بالتميز عندما ألمس شيئاً لمسته أجيال كثيرة من قبلي في عصور سابقة، وقد يعتقد معظم الناس أن جمع الطوابع والعملات هي مجرد هواية لسدّ فراغ الوقت، ولكن قلّة من يُدركون أنَّ وراء هذه الهواية أهمية ثقافية وتاريخية وسياسية".
ويمتلك الرجل الذي يعمل سائق أجرة بجانب هوايته، العديد من العملات الإسلامية أقدمها تعود إلى عام 950 هجري، وهي صكّ من الفضة كان يستخدم كمهر للزواج، كما يحتفظ بمجموعةٍ واسعة من العملات المعدنية والطوابع التي تعود للكثير من الدول العربية، جمعها خلال تنقله في هذه البلدان مثل سوريا ولبنان ومصر، إلى جانب العملات الفلسطينية.
وتعد العملات القديمة من الوثائق التاريخية المهمة، ولها علم خاص بها يسمى علم (النُمَيّات)، الذي يبحث في نوعية النقود وتاريخها والأمم التي سكتها، ويوضح أبعادها التاريخية والجغرافية والسياسية أيضاً.
وقد عرِف الشعب الفلسطيني النقود قبل 4000 عام، منذ وجود الكنعانيين الأوائل وصولًا إلى الانتداب البريطاني مروراً بالعصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية والعثمانية، وفقًا للباحث المتخصص في مجال التاريخ ناصر اليافوي.
ويُعتَمد على العملات القديمة، حسب اليافوي، كدليل رئيسي في معرفة المدن والممالك التي قامت في أرض فلسطين، وقد ساهمت هذه العملات في إعادة كتابة التاريخ الحقيقي بعيداً عن التزييف.
وفيما يتعلق بمجموعة العملات التي يحتفظ بها جرادة فهو يتباهى بثلاثة عملات فضيّة منها ما كانت قد صكّت في زمن الملكة ماريا تيريزا التي حكمت النمسا وهنغاريا وبوهيميا بين عامي 1740 - 1780، يقول: "هذه العملات استخدمت في التجارة العالمية بين دول حوض البحر المتوسط"، كما تضمّ مجموعة جرادة قطعاً نقدية أمريكية تعود إلى ما قبل عام 1850 ميلادي".
يتقاطع ما أشار إليه جرادة مع ما يوضحه اليافوي في أنّه ليس من الضروري أن تكون العملات المُكتَشفة في فلسطين تدل على أن أصحابها غزو هذه البلاد لأن الكثير من هذه العملات كان أصحابها يقيمون علاقة تجارة مع الفلسطينيين، وفق قوله.
ويسعى جرادة الهاوٍ لجمع العملات والطوابع القديمة إلى توريث هذه الهواية إلى أبنائه للحفاظ على هذه العملات والطوابع الفلسطينية وغيرها القيّمة، إذ يغرس فيهم حبها من خلال رواية القصص التاريخية عن هذه العملات.
وبشكل تأريخي، يقول ناصر اليافوي في حديثٍ لـ "آخر قصَّة"، "خلال العهد الروماني حصلت معظم المدن الفلسطينية على حق سك عملات _صناعة العملات المعدنية_ تحمل اسمها، وقد وُجِدت قطع نقدية تحمل رؤوس أباطرة رومان منقوش عليها أسماء مدن فلسطينية، مثل صفورية، طبرية، قيسارية، نابلس، سبسطية، القدس، عسقلان، غزة، وغيرهم".
أما على مستوى العملات الإسلامية عرف الفلسطينيون أول عملة إسلامية في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي بدل العملات الأجنبية بعملة الدينار العربي، بحسبِ اليافاوي الذي أن هذه النقود استخدمت كقطع للزينة تتزين بها النسوة الفلسطينيات وذلك حتى فترة متأخرة من العهد العثماني، وأصبحت هذه العادة من التراث الفلسطيني.
غير أنَّه نشأ أول طابع بريد في فلسطين ويحمل اسمها عام 1923 في عهد الاحتلال البريطاني، إذ صدر بأربعة نماذج مختلفة تحمل صورة للصخرة المشرفة، وصورة لقلعة القدس، وصورة لقبر الصحابي بلال بن رباح الذي يعتبره اليهود "معبد راحيل"، وصورة لجامع طبريا.
وفقًا لمعلومات أوردها موقع وزارة الاتصالات وتكنولوجيا الاتصالات، فقد كانت هذه الطوابع الفلسطينية تحمل اسم فلسطين باللغات الثلاث العربية والعبرية والانجليزية، وبالإضافة إلى ذلك صدرت عام 1938 مجموعة طوابع بريدية مكتوب عليها "فلسطين للعرب" طُبِعت في يافا.
لكنّ الأوضاع اختلفت بعد عام النكبة 1948 فاستعمل الفلسطينيون من حينه إلى عام 1967 الطوابع الأردنية والمصرية في التخليص على مراسلاتهم، كما استخدموا الطوابع الإسرائيلية منذ عام 1967 حتى قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994، إذ أُصدِر أول طابع فلسطيني يحمل شعار السلطة الوطنية وهو النسر.
محمد سعيد (44 عامًا) يتشارك مع جرادة ذات الميول إذ يهتم بجمع الطوابع والعملات على اختلافها خاصة المرتبطة بالتاريخ الفلسطيني على مدار الحقب الزمنية الموغلة القدم، ويحتفظ بعملات يزيد عمرها عن 500 عام.
يقول سعيد لـ "آخر قصَّة"، وقد شارك في معرض هواة جمع العملات والطوابع البريدية الذي أقيم للمرة الأولى في قطاع غزة عام 2016، إنّ ذلك المعرض الذي جاء متأخرًا وفق قوله، قد ضمّ عشرات الطوابع والعملات الورقية والنقدية التي تداولت في فلسطين بجانب عملات عربية وأجنبية تاريخية.
وحول أهمية وقيمة توفر هذه الطوابع والعملات يقول أمين عام رابطة هواة العملات والطوابع محمد الزرد، "عندما تجد في غزة عملات فارسية ورومانية وبيزنطية وإسلامية وعثمانية، تشعر بحجم تاريخ غزة وتريد التعرف على قصص الأمم التي عاشت هنا منذ آلاف السنين".
فيما لا تعد هواية جمع الطوابع والعملات بالسهلة، وفقًا للزرد الذي أشار إلى أنَّ تكوين مجموعة خاصة من العملات والطوابع قد يتطلب بحثاً يمتد لعشرات السنوات، مبينًا أنَّ هذه الهواية لا تختص بفئة عمرية محددة وهي تضمّ شيوخاً وأطفالاً ونساءً ورجالاً.
أما فيما يتعلق بالعوامل التي تؤثر على قيمة الطابع أو العملة القديمة، قال الزرد، "انها أربعة عوامل، أولها ندرة الطابع أو العملة، بالإضافة إلى الكمية المطبوعة أو المسكوكة منها، وأيّضًا طول الزمن الذي مرَّ عليها، وأخيرًا أهميّة المناسبة التي طُبعت أو سُكّت فيها".
وبينما نفى الزرد وهو باحث أكاديمي في تاريخ المسكوكات والعملات النقدية في فلسطين، وجود أيّة أعداد رسمية لهواة جمع العملات والطوابع البريدية في غزة، اتهم الجهات الرسمية بعدم الاهتمام بمجتمع هواة جمع العملات والطوابع، الأمر الذي يبقي نشاطاتهم في الظلّ.
وفي هذا الإطار نجد انعكاسًا الكترونيًا لاهتمام هواة العملات والطوابع الفلسطينيين فيما يُفتقد على أرض الواقع، وفق الزرد، إذ يجمعهم عدد من الروابط والتجمعات والجمعيات التي أنشأت خلال السنوات الماضية، مثل صفحة هواة العملات والطوابع – فلسطين التي تضم 3300 عضوا، وصفحة هواة جمع الطوابع - البريد الفلسطيني ويتابعها 1900 شخص، والجمعية الفلسطينية لهواة الطوابع وتضم نحو 4000 عضو.
وطالب الزرد بضرورة تأسيس إطار حكومي يهتم بأولئك الهواة ونشاطاتهم، على اعتبار أن هذه الطوابع والعملات جزء من الهوية والتاريخ الفلسطينيين، اللذين ينبغي المحافظة عليهما.
وحاولت مراسلة "آخر قصة" التواصل مع عددٍ من مسؤولي الإدارة العامة للبريد بوزارة الاتصالات بغزة بصفتها الجهة الرسمية المشرفة على الخدمات البريدية والطوابع للوقوف على دورهم في تشجيع ودعم هذا المجتمع، لكنهم ردوا بأنّهم غير مُصرح لهم بالحديث لوسائل الإعلام.