يتدارى عمر سمير (15 عامًا) من الأمطار الغزيرة في مدخل أحد المباني التجارية في حي الرمال وسط مدينة غزة، يترقب السماء في انتظار توقف هطول المطر، وينشغل ببسطته الخشبية المعلّقة على رقبته، يحرك حبلها العريض يُمنة ويُسرة علّه يخفف من عبء الثقل الواقع عليه.
لم تمنع برودة الجو الطفل عمر من الخروج كل يوم لعمله من الساعة العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساءً؛ لبيع المنتجات البسيطة كـ"المقصات والابر والدبابيس"، مثله مثل العديد من الأطفال في قطاع غزة الذين انخرطوا في أعمالٍ تفوق أعمارهم؛ إذ بلغت نسبة عمالة الأطفال في قطاع غزة %0.9، من أصل نحو 413 ألف طفل تفاوتت أعمارهم ما بين (10-17) عام.
وتتعدد أشكال الأعمال التي ينخرط فيها أطفال القطاع وقد لا تلائم وأجسادهم الضعيفة، من البيع على البسطات المحمولة وتنظيف السيارات في الشوارع، أو عاملين في المخابز والبقالات وورش السيارات، ومساعدين في بعض الحرف الشاقة كالعمل فما يعرف بـ"الكسارات" (آلات لطحن الركام).
كما يعمل العديد من الأطفال أيّضًا في جمع الأسلاك والحجارة من الأماكن الحدودية النائية، وجمع العلب المعدنية والمُخلّفات البلاستيكية وبيع المنظِفات والأطعمة على المفترقات، دون وجود رادع حقيقي لوقف هذه الظاهرة التي تتعارض مع ما نص عليه القانون.
ويحظر قانون الطفل الفلسطيني في المادة (4)، تشغيل الأطفال أو استخدامهم أو تكليفهم بأية أعمال أو مهن خطرة أو غيرها من الأعمال والمهن التي تحددها وزارة العمل ومن شأنها إعاقة تعليمهم أو إلحاق الضرر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسية، بما في ذلك العمل لدى الأقارب من الدرجة الأولى.
كما جاءت المواد (93,94,95) من قانون العمل الفلسطيني تنصّ على أنّه يُحظر تشغيل الأطفال الأحداث دون سن الخامسة عشر، ويسمح بعمل الأطفال في سن (15-17) عامًا بشروط معينة، منها ألا تكون هذه الأعمال خطرة أو ليلية أو في أماكن نائية، وأن تكون ساعات العمل قصيرة، ويتوفر كشف طبي للأطفال كل 6 أشهر.
وتوقف الطفل عمر سمير ومثله الكثير من الأطفال العاملين، عن الدراسة في سنٍ مبكرة أو تسربوا؛ ليتحملوا عبء إعالة أسرهم وتحصيل ما لا يزيد عن 10-15 شيكل (3-4$) يوميًا، في تجاوز واضح من قبل أسرهم لنصّ القانون في المادة (37) من قانون الطفل، الذي يُلزم الأطفال بالدراسة حتى سن 16 عامًا.
لكن ما هو الدور الرسمي تجاه هؤلاء الأطفال العاملين في الأماكن العامة خاصّة الباعة المتجولين على مرأى من رجال الأمن على المفترقات؟، يقول المحامي إبراهيم أبو هربيد إنّ الأمر يقع على عاتق دائرة حماية الأسرة والأحداث في وزارة الداخلية التي تتخذ الإجراءات المناسبة من فور رؤيتها لطفلٍ متسرّبٍ من المدرسة في الشارع.
ومع ذلك يُلاحظ استمرار ظاهرة العمالة والتسرّب من المدرسة دون انخفاض واضح على وجودهما في قطاع غزة، إضافة إلى ذلك كان قد أظهر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ارتفاعًا كبيرًا في عمالة الأطفال تحديدًا، وأرجِع مختصون الأمر إلى تفشي ظاهرة الفقر، ووفقا لاحصاءات نشرتها "الأونروا" فإنًّ ما نسبته 81.1% من السكان في القطاع يعانون الفقر ونحو 64% يعانون انعدام الأمن الغذائي.
ويمارس الطفل أنس جواد (14 عاماً)، مهام شاقة وخطرة على حد سواء، حيث يلج هو ورفاقه داخل حاويات النفايات شمال مدينة غزة، مُحاولاً استخراج قطع بلاستيكية يمكنه بيعها. ويعمل هذا الطفل ومعه اثنين من أبناء جيرانه تواروا خجلاً عند مقابلتهم بلباس رث مهلهل.
ويقول أنس وهو من سكان شمال قطاع غزة، إنه يمارس هذه المهنة بدافع من والده المتعطل عن العمل، وإنه يسابق الوقت من أجل الولوج إلى الحاويات قبل أن يقوم عمال البلدية بإفراغ حمولتها ونقلها إلى المكب. ويتنهي به المطاف بعد قضاء أكثر من سبع ساعات يومياً موزعة بين جمع البلاستيك من الحاويات والشوارع، بالحصول على أجرٍ زهيد لا يتجاوز (15 شيكلاً).
وأشار الطفل الذي غادر مقاعد الدراسة قبل نحو عامين، إلى أنه يقوم بجمع البلاستيك ومن ثم بيعه إلى تاجر يقع على مقربة من مسكنه، ومن ثم يعود إلى بيته كل يوم يجر قدميه المثقلين بالتعب.
ويعاني الأطفال من هذه الظروف المختلفة في غزة دون تنبه وإدراك حقيقي لما يُلاقونه من انتهاك لطفولتهم، وفقًا لما قالته المختصة الاجتماعية ألفت المعصوابي، وأضافت "من المهم أن يعيش الأطفال أطول مرحلة مُمكِنة من الطفولة وألا يأخذوا دورًا يفوق أعمارهم".
وتابعت المعصوابي قولها في حديثٍ لـ "آخر قصة"، "في مرحلة الطفولة يُفضل أن يعايش الطفل التجارب والاكتشاف والبناء وتكوين الخبرات وتأسيس الضمير والقيم المجتمعية بعيدًا عن أي بيئة قد تسلبه هذا الحق وتُسيْ له جسديًا ونفسيًا ومعنويًا وفكريًا بالأعمال الشاقة والأماكن غير الملائمة فيبقى عُرضة للاستغلال على اختلاف أنواعه".
وتفترض المختصة أن "مَن لم يكن طفلاً حقًا فلن يكن رجلًا حقًا"، على اعتبار أن الطفل الذي يُحرم من طفولته ولا يكتسب فيها القيم المناسبة سيصبح شخصية غير سوية كزوج أو مواطن وسيتخذ من العنف طريقةً لحلّ مشكلاته وتسيير أمور حياته بعيدًا عن التفاوض والحوار، على حدِ وصفها.
بالإضافة إلى ذلك، ترى المعصوابي أنّ عمالة الأطفال هي جهد بدون عائد، فبعض الأطفال يعملون في ورشات الميكانيك أو المخابر مقابل 5 شواكل لـ 18 ساعة عمل.
وللحدّ من هذه ظاهرة عمالة الأحداث، تحدثت في عددٍ من النقاط المهمة وأولها تطبيق الشرع والقانون اللذان يحدانّ من عمالة الأطفال بجانب تفعيل الرقابة الحقيقية على العمل وشروطه، مشيرة إلى ضرورة تفعيل دور الوزارات المنوط بها هذا العمل والهيئات الاجتماعية.
وحثت أرباب العمل، على ضرورة أن يكون لهم دوراً مهماً وجاداً في التقليل من عمالة الأطفال من خلال عدم استقبالهم وتشجيعهم على عدم ترك مقاعد الدراسة.
وختمت حديثها "للبيئة التعليمية دوراً مهماَ في التخفيف من هذه الظاهرة فمن الطبيعي أن ظاهرة التسرب المدرسي تزيد من عمالة الأطفال، فالطالب الذي لم يجد أنَّ مدرسته مكاناً آمناً ومريحاً سيبحث عن بيئة أخرى أفضل وفق وجهة نظره محدودة الأفق".