تذهب الدراسات في تفسيرها ظاهرة العنف الاجتماعي بأنه غالباً ما ينتج في بيئات غير طبيعية، فما بالك في مجتمع واقع تحت احتلال وحصار، ويكابد الفقر والجوع وفوق كل ذلك يعاني الإغلاق الشامل بسبب تفشي فيروس كورونا، كمجتمع قطاع غزة؟
قد تبدو ظاهرة العنف الاجتماعي مستوعبة بمفهومها العام في ظل هذه الظروف والتعقيدات، لكن ما لا يوجد له تفسير مقنع إلى الآن هو مظاهر هذا العنف التي تخطت حدود المعقول، سواء في جوهره المتمثل في القوة والتهديد، أو حتى في حجم الأذى وضحاياه.
ازداد حجم المشاجرات بين العائلات والجيران وحتى الأقرباء خلال فترة الإغلاق الشامل التي بدأت في الخامس والعشرين من آب/ أغسطس الماضي بسبب تفشي الجائحة، إلى درجة أن أحد رجال الشرطة قال "إن فض الشجار والنزاعات أصبح عملاً يومياً!".
تقودنا أشكال العنف القائمة داخل المجتمع، إلى نتيجة حتمية، ألا وهي تراجع قدرة الأفراد على تنظيم العلاقات فيما بينهم، الأمر الذي يظهر العنف بوضوح ليصل إلى استخدام الأشكال العدوانية، على حساب قيم التسامح والتغاضي عن السلوكيات الاستفزازية الصادرة عن الوسط المحيط.
ثم يأتي الحجر الإلزامي للأسبوع السابع على التوالي بسبب انتشار الفيروس، ليعزل الناس في مساكنهم ويغلق مسارات التواصل مع الآخرين، الأمر الذي يزيد في تشدد عقلية الأفراد المتصلبة أصلاً ويجعلها محدودة الأفق.
وبناء عليه، بتنا نرى أشكالاً ومظاهر خطرة للعنف المنتشر في أماكن متعددة من القطاع، وخصوصاً في ظل وجود نزاعات عائلية مسلحة، الأمر الذي يؤشر إلى احتمال عودة ظاهرة الفلتان الأمني التي شهدها القطاع في غمرة أحداث الاقتتال الداخلي سنة 2007.
وثقت كاميرات الهواتف التي يحملها المواطنون كيف أن إطلاق النار يستخدم بكثافة ووسط تجمعات سكانية مأهولة في شجارات عائلية وقعت في كل من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، وفي محافظة خان يونس جنوبي قطاع غزة، وهذا لا يعني أن مناطق أُخرى لم تشهد أحداثاً مشابهة، لكنها لم توثق.
وعلى نحو متصل، يتضاعف عنف آخر بشكل خفي، وهو العنف المبني على النوع الاجتماعي داخل الأسر نفسها والتي تتسبب فيها ذكورية الرجل وطغيان سلطته على الأنثى المتمثلة في (الزوجة، والأخت، والابنة).
تفيد زميلات في مراكز تُعنى بشؤون المرأة، بأن هناك عشرات الاتصالات من نساء معنفات بحثاً عن حلول لعنف جسدي يتعرضن له سواء من الأزواج أو الأخوة أو حتى الآباء، في ظل الحجر المنزلي، وبأن مستوى العنف يتضاعف بشكل خفي وخطر داخل هذه الأسر، لكن لم يسمع لها صوت خارج عتبات البيوت.
ووفقا لإحصاءات جهاز الإحصاء الفلسطيني خلال سنة 2019، تظهر مؤشرات العنف الرئيسية أن مستويات العنف مرتفعة في قطاع غزة عن غيره من المناطق، إذ بلغت نسبة العنف الاجتماعي في القطاع نحو 41% في مقابل 20% في الضفة الغربية، وهذا يظهر الفارق الكبير بين المنطقتين. بينما كانت نتيجة العنف من الحيز الخارجي (في الشارع) الذي تتعرض له جميع الفئات العمرية 82%، في مقابل 46% في الضفة الغربية.
وفيما يتعلق بالنساء اللواتي تعرضن للعنف من الزوج، بلغت نسبة العنف النفسي 76%، ونسبة العنف الجسدي 34%، أمّا العنف الجنسي فقد بلغت نسبته 14%.
وفي العادة يعالج هذا العنف بإحدى طريقتين: القانون ورجال العشائر. ففي المشاجرات مثلاً يقوم الجهاز التنفيذي باعتقال الخصمين، فيما لا تنتهي القضية إلاّ بتنازل الطرفين عن حقهما وبتوقيع ورقة صلح، وذلك بتدخل من رجال العشائر لإصلاح ذات البين.
أمّا في حوادث الاعتداء، فيتم اعتقال المعتدي، إلى حين أن يصفح الضحية ويسقط حقه تنازلاً وإكراماً للجاهة (مخاتير ووجهاء) المتقدمة لحل النزاع، أي أن القضية تحل كما يشاع بموجب (فنجان قهوة)، وفي حال رفض الضحية إسقاط حقه فإن القانون يأخذ مجراه، بمعنى أنه يتم إيقاف المعتدي بحسب المدة القانونية ويعرض بعد ذلك على النيابة ومن ثم على المحكمة.
لكن في المجمل يسود اعتقاد لدى شريحة كبيرة من الناس، أن جهاز الشرطة يقوم بالتسويف في تحويل المتهم بالاعتداء إلى النيابة، وذلك لإعطاء فرصة للصلح بين الخصوم.
أمّا في الحالات الجنائية، فغالباً لا تحل القضايا إلاّ في المحاكم، على الرغم من جهود الصلح التي يبذلها أهل العُرف. وبالمناسبة فوزارة الداخلية في غزة لديها دائرة متخصصة تسمى (شؤون العشائر) يوكل إليها الكثير من مهمات الإصلاح.
غير أن أكثر الفئات المجتمعية تضرراً من المصالحات العشائرية، هي فئة النساء، لأنها تمثل دائماً الحلقة الأضعف في سلسلة العنف. ووفقاً لدراسة أعدها مركز الدراسات وقياس الرأي العام في جامعة الأقصى في غزة عن ظاهرة العنف ضد المرأة خلال السنة المنصرمة، فإن 43.3% من العينة المستطلعة آرائهن، أجبن عن سؤال: كيف تتصرفين عند تعرضك للعنف؟ بأنهن يعمدن إلى البكاء والسكوت، بينما أفادت 17.9% من العينة بأنهن يقمن بالدفاع عن النفس.
كما بيّن الاستطلاع أن نسبة 16.0% يحاولن الحصول على المساعدة من الآخرين، في حين أن نسبة 7.5% من العينة أفدن بأنهن عند تعرضهن للعنف، يخرجن من المنزل.
والنتائج الآنفة تعطي دلالة، على أن العنف ضد النساء لا يزال مستتراً، بصرف النظر عن وجود بعض النماذج التي استطاعت فيها المرأة مواجهة المجتمع من خلال الإفصاح عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن شكل العنف الذي تتعرض له داخل الأسرة، غير أن هذا لا يشكل انعكاساً للحالة العامة.
إذا أخذنا في الاعتبار، أن العنف حالة نفسية ناتجة من القصور الذهني والضعف التقني في إدارة الأحداث المحيطة بالإنسان وهو ما يؤدي إلى اضطرابه نفسياً وينفس عن هذا الاضطراب بممارسة الإيذاء، فمعنى ذلك أن احتمالات زيادة أشكال هذا العنف ستكون واردة خلال الفترة المقبلة في غزة، ما لم تتحسن الأوضاع الحياتية، وهو أمر ليس له إرهاصات على المدى القريب، ولا سيما في ظل الحديث الحكومي المتجدد عن العودة إلى فرض الإغلاق الشامل.
هذه الاحتمالات ليست من قبيل النظرة التشاؤمية، لكن الواقع يشير إلى أن الأعباء الحياتية في ظل فيروس كورونا وإجراءات تقييد الحركة وغياب فرص العمل وتفشي الفقر وتضخم نسب البطالة في قطاع غزة، جميعها عوامل مسببة لإحداث سلوكيات غير سوية نتيجة العجز عن مواجهة هذه الأوضاع المتردية، وبالتالي فإن العنف سيتضاعف عما هو عليه الآن.
في ضوء ما تقدم، فإن ثمة سؤال يحتاج إلى إجابة شافية: ما الذي يتسبب في استمرار العنف بهذا الشكل؟
تحتم علينا الواقعية القول، إن المجتمع يذهب نحو مزيد من الشروخ والتفكك في العلاقات الاجتماعية والأسرية المنهكة أصلاً، وذلك بسبب الدوافع البيئية المتمثلة في وجود الانقسام السياسي والحصار والعدوان وتردي الواقع المعيشي، فضلاً عن الانعزال وعدم الانفتاح على الثقافات المحيطة وغياب قيم التسامح وتقبل الآخر وسيادة خطاب الكراهية.
وبالتالي فإن استمرار العنف على هذا النحو يفتح الباب أمام ارتكاب مزيد من الجرائم داخل المجتمع، كما أنه يزيد من السلطوية الذكورية على النساء.
وفي هذا السياق، يطرح سؤال آخر نفسه: ما هو المطلوب الآن للتعامل مع هذا العنف؟
وأرى أنه قبل أي شيء، نحن بحاجة أولاً، إلى تعزيز مبدأ التكافل بين الناس من خلال قيام الحكومتين في كل من قطاع غزة والضفة الغربية بمسؤولياتهما تجاه دعم وتغطية حاجات الأسر المتعففة، وخصوصاً في الأحياء والمناطق الأكثر عرضة للعنف. وثانياً، العودة بالتدريج إلى الحياة الطبيعية مع الاعتماد على متطلبات السلامة الوقائية، بما يشمل عودة عمل القطاعين العام والخاص، وهو ما قد يساهم في الحد من تضخم الطاقة السلبية الناتجة من مكوث الأفراد في مكان واحد ومع الأشخاص نفسهم فترات طويلة. ثالثاً، قيام المؤسسات الأهلية، وخصوصاً تلك التي تقوم برامجها على دعم وحماية الأسرة والمجتمع، بتخصيص برامج للدعم النفسي والاجتماعي للسكان المحاصرين (سياسياً- صحياً)، بما يساعد في تراجع مستوى العنف أياً كان شكله (لفظي، جسدي). رابعاً، العمل على بناء الإنسان، أسوة بالمساكن التي دمرتها الحرب ذات يوم، وذلك من خلال تعزيز قيم التسامح ونبذ الكراهية والتحريض على العنف، وإعادة النظر في الخطاب الديني القائم على الازدواجية والتناقض بين القول والفعل، فضلاً عن ضرورة تعزيز حضور المراكز الثقافية المعنية بتحفيز الطاقات الإبداعية لدى الأفراد، من أجل تنشئة جيل واع وقادر على صناعة التنمية في المجتمع.