قبل نحوِ خمسين عامًا وفي العام 1973 تحديدًا ابتاع السبعيني خليل داوود سيارته من نوع "فيات" من مدينةِ يافا، وقد اختارها واسعة لنقل بضائعه ومستلزمات رحلاته مع زوجته وأطفاله الثلاثة من غزة إلى وادي اللوز في مدينة القدس مسقط رأس زوجته، وربما لم يُخيل إليه أنّها ستبقى رفيقة العائلة لنصف قرنٍ أو يزيد.
تلك السيارة التي رافقت العائلة الممتهنة لبيع قطع غيار السيارات والميكانيكا لزمنٍ طويل، صارت محط اهتمام الأبناء. حيث لم يدّخر الشاب أحمد داوود فرصة لتجديد سيارة والده.
يقول أحمد إنه استغرق 16 عامًا من العمل المتفرق ليعيد إلى هذه المركبة رونقها وحيويتها فتبدو شكلاً للناظر وكأنّها واحدة من الموديلات الحديثة.
تقف المركبة أمام ورشة العائلة، بلونها الأزرق الفاتح والفرش الداخلي الأحمر؛ تبيان يلفت المارة كلما اقتربوا وكأنّها سيارة هاربة من عصرٍ قديم فتجدّ هناك هواة يلتقطون صوراً معها أو لها ويستخدمونها في النشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
لم يأتِ اهتمام "أحمد" بتلك التفاصيل المتعلقة في جمع القطع المفقودة من سيارتهم صدفةً فقد وُلِد شغوفًا بالسيارات وكان مطلِعًا على عمل والده وأخواله في الميكانيك وبيع قطع السيارات الحديثة والقديمة.
يقول الشاب في حديثه مع "آخر قصة"، "منذ صغري كنت أُعيد فك جميع السيارات الألعاب وأصنع من القطع سيارة مختلفة بتصميم خاص وقد كبر معي هذا الشغف حتى شبابي وعملي مع والدي في الورشة ثم تهيأتُ لإصلاح السيارات القديمة خاصة سيارة والدي".
وقضى الثلاثيني تلك السنوات الطويلة ما بين جمع القطع المفقودة التي أعياه البحث عنها، ورسمٍ لهيكل السيارة وتجديد كل جزء فيها بعدما أكلها الصدأ بفعل الزمن، وكونها في عقدها الخامس، فهي تنضم إلى قافلة السيارات المُسنّة التي غالبا ما يجري الاهتمام بها في الدول المتطورة واحتوائها في متاحف.
ليالٍ كثيرة قضاها الشاب داوود دون نوم وهو يفكر في كيفية وإمكانية جمع القطع المتبقية لإصلاح السيارة حتى اضطر للسفر إلى مصر وتحمل عناء الطريق وصولاً إلى الإسكندرية بحثاً عن ضالته من القطع النادرة، وقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً من أجل إدخالها إلى قطاع غزة الذي يعاني حصاراً منذ 16 عاماً.
ويؤكد داوود بحكم خبرته في مجال الميكانيك أنّ قطع السيارات القديمة تُباع في غزة مع الخردوات وتُصرَف للبيع بالكيلو مع الحديد والنحاس دون فرزٍ لها حسب النوع والاستخدام، ويقول "الباحث عن قطعة معينة كالباحث عن ابرة في كومة قش وربما أشدّ صعوبة، إلا أنّ عمل والدي وجدي من قبل في بيع قطع السيارات منذ عام 1935 أعانني على إيجاد بعض القطع في مخزن العائلة واستخدامها بعد التعديل عليها".
ليست سيارة عائلة داوود وحدها المعمرة في غزة بل هناك نحو "106 مركبة" أخرى مُصنعة منذ ستينيات القرن الماضي وما تزال متواجدة في قطاع غزة، وذلك وفق إحصائية أعدّتها وزارة النقل والمواصلات في وقتٍ سابق، التي أشارت إلى أن 46 من هذه المركبات يعود تاريخ صناعتها إلى ما قبل العقد الخامس من القرن المنصرم و3 إلى حقبة الخمسينيات، و57 إلى العقد السادس من نفس القرن.
يأتي ذلك على الرغم من أن عدد السيارات الجديدة التي دخلت قطاع غزة خلال عام 2022 بلغ 3200 سيارة بمعدلٍ شهري 267 سيارة، فلم يمنع هذا وجود السيارات القديمة التي تتجول في شوارع المدينة ويتجاوز عمرها (20-30 عامًا)، فيما يعود تمسك الأشخاص بهذه السيارات وفق تقييم مختصون إلى أمرٍ أساسي مُتعلق بتدني مستوى دخل الأفراد وعدم القدرة على امتلاك سيارات حديثة.
وبالعودة إلى أحمد داوود الذي قضى أكثر من نصفِ عمره في ترميم سيارة والده، يقول، "لهذه السيارة مكانة في القلب وحكاية عالقة في ذاكرتي عندما أخبرني والدي أنّه أقلّ والدتي فيها يوم ولادتي من مستشفى المعمدان في غزة وقد حظيّ هذا الحدث على مكانةٍ في قلبي فأردت أن أجعل السيارة ذكرى جميلة لأطفالي أيضًا وتكررت الحادثة عندما استقلت السيارة زوجتي وهي عائدة من مستشفى الولادة برفقة بكرنا عدي".
لا يتوقف شريط الذكريات مع سيارة "فيات" الأثرية لدى عائلة داوود إلى هنا رغم أنّهم يعملون في مجال قطع السيارات وقد استبدلوا على مدار سنوات ما يُقارب خمسة أنواعٍ منها، إلا أنّ هذه السيارة ارتبطت في ذهنهم برحلاتهم الأسبوعية نحو بيت جدهم في مدينة القدس والطريق الذي حفظوه ذهابًا وإيابًا وحقيبة هذه السيارة الواسعة التي طالما ناموا فيها إذا باغتهم النعاس في الطريق.
يقول أحمد والابتسامة تغمر محياه، "وعينا على الدنيا ونحن نركب هذه السيارة ونحبها وارتبطنا فيها ارتباطاً وثيقًا؛ لذا أرفض رفضاً قاطعاً أي عروض لبيعها مهما كان السعر مُغريًّا"، موضحاً أنَّ أعلى عرض قدمه مشترون كانت قيمته 12 ألف دولار أمريكي.
ورغم أن القيمة المادية لسيارةٍ بعمر سيارة هذه العائلة لا تتجاوز تلك المبالغ التي تعرض لبيعها؛ إلا أنه من المهم الإشارة إلى أنّ السيارات القديمة في غزة لا تحتكم لأسعارِ ومحددات تجارة السيارات فيها، بل تحتكم لقيمتها العمرية والأثرية والنفسية وكذلك جيوب الهواة ممن تتملكهم الرغبة الدائمة في امتلاك سيارات بطرازٍ فريد من نوعه.
يتشارك مع أحمد في شغفه كهاوٍ لامتلاك وتصليح السيارات القديمة الكثيرين، وفق قوله، فإنّ هناك عددًا لا بأس به من الأفراد والأسر الذين توارثوا هذا الأمر ويحملون في قلوبهم شغفًا وحبًا وذكريات ماضية يُخلّدونها من آبائهم وأجدادهم.
وغالبًا ما يعرف هواة السيارات القديمة بعضهم بعضًا رغم عدم وجود هيكل مُنظم يجمعهم أو مكان واحد يستطيعون من خلاله عرض سياراتهم المميزة للعامة؛ للتعرف على موديلاتها التي يخيل للناظر أنها خرجت من فيلم أبيض وأسود قديم وهو طموح أحمد الذي يتمنى الوصول إليه أن يجمع كل السيارات في معرض واحد كل فينة وأخرى كما ذلك المعرض الذي تم قبل ثلاثة عشرة عاماً في ساحة الكتيبة وسط مدينة غزة.