منذ سنوات ظهرت في قطاع غزة ظاهرة أطلق عليها المختصون الاقتصاديون اسم "التكييش" تقوم على شراء سلع معينة بالتقسيط عن طريق "الشيكات" أو "الكمبيالات"، بسعرٍ يزيد عن سعرها الأصلي، ثم بيعها نقدًا بسعر زهيد و بفوارق كبيرة عن مبلغ الشراء إما للتاجر نفسه الذي باعها أو لجهة أخرى.
وانتشرت هذه الظاهرة بدايةً من العام 2017 مع ازدياد تردي الوضع الاقتصادي في القطاع، وما نتج عنه من انعدام مصادر دخل الكثير من العائلة وعدم توفر السيولة المالية. وبحثاً وراء السيولة يضطر مواطنون للجوء إلى ما يعرف بـ"التكييش"، رغم أنها عملية تُوقِع صاحبها في أزمة تراكم الديون أو الكمبيالات، نتيجة العجز عن الوفاء بالأقساط، وبالتالي يصبح في مواجهة السجن.
ولو افترضنا أن هناك مواطناً يرغب في الحصول على سيولة نقدية لتسديد التزامات لديه، فإنه يلجأ إلى أحد المحال التجارية لشراء جهاز كهربائي قيمته الأصلية مثلاً "ألف دولار"، ثم يقوم بالتوقيع مع التاجر على معاملة تقتضي دفع مبلغ ألفي دولار -ضعف المبلغ الأصلي- شريطة أن يسدد المبلغ المستحق بنظام القسط الشهري.
ومن الفور يقوم المشتري ببيع الجهاز سواء إلى التاجر نفسه، أو إلى تاجر آخر في السوق المحلي، بقيمة 800 دولار (أي بمعدل خسارة 1200 دولار) بعدما يكون قد كبل نفسه بسلسلة من الشيكات أو الكمبيالات التي تستخدم ضده في حال عجزه عن الوفاء بالأقساط .
وفسر الخبير الاقتصادي ماهر الطباع انتشار ظاهرة التكييش في قطاع غزة، بأنه عائد إلى أن القطاع يشكل بيئة خصبة لمثل هذا النشاط نتيجة معاناة السوق من الركود، و اشتداد الأزمات الاقتصادية بفعل الحصار المفروض للعام الخامس عشر على التوالي، فضلا عن تداعيات الأزمة المالية التي تكونت بعد عام 2017م الذي شهد تحويل عدد كبير من الموظفين الحكوميين إلى ما يعرف بـ"التقاعد المالي"، وقطع رواتب موظفين آخرين وتقليص نسبة الراتب، وفق قوله.
تتقاطع هذه العوامل لتفرز ظروفاً مُلِّحة تجبر المواطنين على القبول باستغلال حاجتهم للسيولة من قبل شركات تعمل خفية سواء كانت هذه الشركات مرخصة أم لا؛ الأمر الذي ينتهي بحبس المواطنين على خلفية ذمم مالية في ظلّ غياب قوانين تحمي حقوقهم من الاستغلال والتلاعب، ليصل حجم التكييش بغزة إلى أكثر من مليار دولار، وفقا لما قاله مدير عام السياسات العامة والتخطيط بوزارة الاقتصاد الوطني أسامة نوفل.
ووفقاً للتفتيش القضائي في قطاع غزة، فإن إجمالي قضايا الذمم المالية بلغت 142 ألفاً، حتى عام 2020، ولا يعرف عدد قضايا الذمم المالية الموقوفة أمام القضاء والمتعلقة بـ"التكييش" على وجه الخصوص.
وتشمل هذه الظاهرة نطاقات محددة من السلع، وكانت بدأت في قطاع بيع الهواتف النقالة، ثم اتسعت لتشمل عدة قطاعات كالسيارات والأجهزة الكهربائية والعقارات وحتى الذهب، كما أوضح الخبير الطباع.
وقال الطباع في سياق حديثه لـ"آخر قصة"، "يشير تنامي التكييش إلى حاجة المواطنين له، على الرغم مما يُلحقه بهم من أضرار سواء على صعيد المواطن الذي يثقل كاهله بالديون والكمبيالات وتعسر السداد، أو على صعيد التجار إذ تتسبب بكساد بضائعهم عندما تنخفض الأسعار كثيرًا".
وفيما يتعلق بخسائر قطاع السيارات وحده، أشار إسماعيل النخالة رئيس جمعية مستوردي السيارات في قطاع غزة في مقابلة مع "آخر قصة" إلى أنّ عمليات التكييش التي حصلت في الشهور الماضية كبدت الكثير من التجار خسائر مالية كبيرة قدرتها بعض الجهات بـ 2-4 ملايين دولار، وهو ما تسبب بتراجع عملية إدخال السيارات بنسبة كبيرة جداً، حسبما قال.
في هذا الإطار، توجهت "آخر قصة" بمساءلة وزارة الاقتصاد الوطني تجاه دورها في مكافحة ظاهرة التكييش، وعليه قال مدير عام الشؤون القانونية والمستشار القانوني بالوزارة يعقوب الغندور، إنّ وزارته اهتمت بالترويج إلى نظام البيع بالتقسيط اعلاميًا من أجل توعية الجمهور، وطالبوه بوقف التعامل بنظام التكييش، وضرورة التواصل مع الوزارة في حال وقع أي من المواطنين في شباكه.
وعلى الرغم مما أوضحه الغندور من أنّ وزارة الاقتصاد الوطني أصدرت قرارين (64) - (73) لعام 2022، واللذين يحظران عملية التكييش وينظمان عملية البيع بالتقسيط بحيث لا ترتفع نسبة الزيادة في المبلغ المُقسط عن 5% سنويًا، إلا أنّ أحد القرارين يحتوي على 6 حالات من الاستثناءات لم يشملها عمل الوزارة بمراقبة ومنع عمليات التكييش، مثل قضايا الذمم المالية الناتجة عن التعاملات غير التجارية بالتكييش؛ ما يفتح الباب للتساؤل عن موقع القانون الفلسطيني وتشريعاته في حماية المواطنين من عملية الغش وسدّ ثغرات القرار الوزاري؟.
ويرى المحامي عبد الله شرشرة إنَّ قرارات وزارة الاقتصاد الوطني على الرغم من أهميتها؛ إلا أنّها تبقي المجال مفتوحًا أمام ثغرات قانونية كثيرة تُجيز التحايل والتعامل بالتكييش، مبينًا أنّ القرار لا يشمل عمليات المتابعة والمراقبة التي تجريها وزارة الاقتصاد حول التكييش بالعقارات الذي لا يعتبر من نطاق اختصاصها.
وكانت وزارة الاقتصاد قد أعلنت عن نظام البيع بالتقسيط وقراراتها لحظر التكييش خلال ورشة عمل نظمتها نقابة الاقتصاديين الفلسطينيين بالغرفة التجارية في غزة مطلع الشهر الجاري، غير أن هذه الورشة شهدت انتقادًا من قبل بعض أعضاء النقابة والصحفيين لعدم دعوتها سلطة النقد الفلسطينية والمجلس التشريعي، باعتبار ظاهرة التكييش خلقت بالأساس نتيجة شح السيولة، ويتطلب علاجها ضخ المزيد من السيولة في الأسواق بانتظام والنظر فيما يتعلق بالشيكات المرجعة، بالإضافة لإصدار مواد قانونية تُجرِّم التكييش وتفرض عقوبات رادعة على المتعاملين بها.
لكن سلطة النقد التي اكتفت بالإشارة في تصريحات سابقة لمحافظ سلطة النقد عزام الشوا، إلى اتخاذهم إجراءات للحدّ من ظاهرة الشيكات المرتجعة عن طريق تطوير نظام الشيكات المعادة الذي اعتبرته يفي بالغرض، بالإضافة لإطلاقهم نظام الاستعلام الائتماني لشركات القطاع الخاص، لم تشير بالمطلق إلى قيامهم بأيّة إجراءات تجاه حلّ مشكلة شح السيولة.
في المقابل، قال مدير عام الشؤون القانونية في المجلس التشريعي أمجد الأغا، لـ"آخر قصة"، "إنَّ المجلس التشريعي عقد ورشات عمل مع الجهات ذات الاختصاص مُمَثلة بوزارة الاقتصاد والنيابة العامة ومُمثِلين عن البنوك ووزارة العدل والمحاكم، وخرجت بالقرارات التي أصدرتها وزارة الاقتصاد وبتشكيل لجنة من المباحث الاقتصادية التابعة للأمن الداخلي والنيابة العامة ووزارة العدل لمعالجة الظاهرة من الناحية القانونية والاقتصادية".
وعن سؤاله حول احتمالية تعديل قانون التجارة الفلسطيني بشكل يتضمن وضع قيود وشروط معقدة لعدم استغلال التجار حاجة الناس من خلال ممارسة ظاهرة التكييش، ومحاربة المتحايلين على القانون، فقال الأغا، إن الأمر لا يزال قيد الدراسة في المجلس التشريعي.