في كثيرٍ من اللحظات يُمارس الأطفال إزاء بعضهم بعضًا سلوكيات غير مقبولة، قد تكون مكتسبة من البيئة المحيطة والمجتمع من حولهم دون أنّ يشعروا بحجمِ الأذى الذي يتسببون به إلى شخصٍ ما، وأحد هذه السلوكيات هي التنمر الذي تتنوع أشكاله، لاسيما إذا كان تنمر بسبب لونِ البشرة.
يُعاني الأطفال ذوات البشرة السوداء في البيئة الصفية داخل المدارس أو البيئة المجتمعية عامةً من صنوف متعددة من التنمر بسبب لون بشرتهم، يصل إلى السخرية منهم ونبذهم ووصمهم بمصطلحات منها "عبد، بشع، كوشة، شتوي" وغيرها؛ الأمر الذي يُصاحبه مشكلات نفسيّة جسيمة حسبما عبّر بعضهم، تجعلهم يحاربوا لأجلِ التخلص منها عبر سنوات.
مروة أحمد _اسم مستعار_ (18 عام)، كانت فترة الدراسة الابتدائية الأكثر صعوبة على نفسها، تقول: "عندما كنت في الصف الرابع كانت زميلاتي في الفصل يسخرن منّي بسبب لون بشرتي وعندما أحاول التقرب من إحداهن في فترة الاستراحة المدرسية يلقون عليّ أكياس (الشيبس) الفارغة وأسمع منهم ألفاظًا بشعة وقبيحة".
وذات يوم، أجبرت المعلمة مروة على الجلوس بجانب زميلة لها ذات بشرة بيضاء لكن الأخيرة لم تكف عن الاستهزاء بمروة حتى أنّها وضعت حاجز يفصل بينهما، ولم تدرك مروة آثار هذه السلوكيات التي تُمارس ضدّها حتى وصلت الصف السادس الابتدائي وظهرت عليها الآثار النفسية والاضطرابات نتيجة ما تُعايشه يوميًا من زميلاتها.
لم تكن الطفلة تُدرك كيفية مواجهة هذا الكمّ من التنمر؛ الأمر الذي تركها في مهبّ الريح أمام المتنمرين الصغار لسنوات، ما يفتح أمامنا تساؤل حول دور الإرشاد التربوي في المدارس تجاه هذه الحالات.
تُجيب المرشدة التربوية إسلام السيد عن جهودهم في المدارس إزاء ظاهرة التنمر، "نتعامل مع الحالتين سواء الطفل الذي يقع عليه التنمر أو الطفل الذي يتسبب به، ونحتاج الكثير من الوقت لتدريب الطفل المُتنمر عليه لضبط انفعالاته".
وقالت السيد: "هناك أفعال نبدأ فيها بالتدريب العاطفي ثم الذاتي، وندرّب الطفل على مواجهة التنمر بقوة دون أن يُظهِر علامات الغضب والانزعاج فيُهدي الشخص الذي أمامه نشوة الانتصار ويدفعه للتمادي في سلوكه، وهذه التوعية لها أهمية كبيرة على تغيير سلوكيات الطفل ونمو شخصيته السليمة غير الهشة".
ما قالته السيد تقاطع مع ما ظهر بوضوح على حالة "مروة" التي لم تعد تكترث لهذا الأمر في مرحلة الدراسة الثانوية، فقد أصبحت أكثر وعيًّا واستطاعت تنمية قدراتها، كما اجتهدت دراسيًا لتنال المرتبة الأولى على الفصل فتحظى بدرجة احترام أعلى من قبل زميلاتها وتقل حدّة التنمر الواقعة عليها.
وفي دراسة معنونة بـ "المناخ الأسري وعلاقته بالتنمر والصحة النفسية لدى المراهقين من طلبة المدارس في قطاع غزة"، للباحثة لطيفة شتات، تؤكد أنّ متوسط درجات التنمر عند هذه الفئة بلغ (24.40%).
وقد قيّمت الدراسة هذه الدرجة بالمنخفضة نوعًا ما، وفق عينة إحصائية أُجريت على (941) طالب وطالبة من المراهقين في المدارس الحكومية في قطاع غزة خلال العام الدراسي (2020-2021).
تتوافق هذه النتائج مع ما أوضحته رئيسة الصحة النفسية في وزارة التربية والتعليم عبير الشرفا، أنّهم في الوزارة يكرثون اهتمامًا كبيرًا لظاهرة التنمر، وكانوا قد أطلقوا حملة "لا للتنمر" في عموم المدارس، وهي ضمن الخطة الموحدة للمرشد التربوي في كل مدرسة بقطاع غزة.
تقول الشرفا في مقابلة مع "آخر قصة"، "نستخدم في هذه الحملة التوعوية تعريف التنمر وأشكاله وأسبابه ومظاهره، إذ نعمل على توعية المعلمين والطلبة على حدٍ سواء، كما تشمل الحملة الأهالي الذين تولى أهمية كبيرة لإرشادهم حول طبيعة الظاهرة وكيفية التعرف على أنّ طفلهم يتعرض للتنمر ومن ثم التعامل معه على الوجه المناسب.
وقد كان حضور الأهالي في هذه الحملة حول التنمر متذبذبًا فيما حضرت والدة تيم (اسم مستعار) التي كانت لاحظت بدءً عدم رغبة طفلها البالغ من العمر 10 سنوات في الذهاب للمدرسة، بينما لم تكن تدرك الأم السبب الحقيقي وراء ذلك.
واعتقدت الأم أنّ الأمر لا يعدو كونه تقصير وإهمال من صغيرها، دون أن تلتفت إلى أن القضية قد تكون أكبر من ذلك، ثم سرعان ما اكتشفت أنّه يتعرض للتنمر بسببِ دون بشرته من زملائه ويتعذر عن الدوام المدرسي؛ ليتهرب من الإساءات التي يتعرض لها.
تقول الأم: "ما زاد الطين بلّة أن المدرسين أيضًا كانوا يتعاملوا مع تيم بنفس الطريقة"، فلم تجد والدته بُدًا من العمل على بناء شخصية ابنها وحدها عن طريق تعزيز ثقته بنفسه من خلال الورشات والندوات التوعوية والتدريبات والتمارين التي ساعدته على تطوير ذاته إيجابًا ومواجهة المدرسة والمجتمع.
ولكن هل سيجد كل طفل يُعاني التنمر مَن يُسانده للخروج من مشكلاته النفسية، خاصّة في ظلّ عدم شمول القانون الفلسطيني لمفهوم التنمر، وفق ما أشار إليه المحامي زياد الجوراني.
وقال الجوراني في حديثٍ لـ "آخر قصّة": "لم يرد في القانون أيّة حماية قانونية لمفهوم التنمر، ولم يسبق أن تطرح قضايا في المحكمة حول إدانة متهم بسلوك مادي للجريمة سواء كان اعتداء جسدي أو لفظي بسبب التنمر، فالمصطلح متداول دوليًا وليس محليًا".
وفي الوقت الذي يغيب فيه مفهوم التنمر قانونيًا وقد تُفتَقد الحاضنة الاجتماعية إلى حدٍ ما، يقع الثِقل على الدور النفسي لحماية الأطفال من هذه الظاهرة، إذ أفادت المختصة النفسية سمر قويدر أنّ الطفل يُصدر ردود فعل نفسية في حال لاحظ أنّه غير مقبول في محيطه.
من تلك الردود التي يعبر بها الطفل هو أنّه يتساءل عن سبب خلقه بهذا اللون، عن اختلافه الشكلي، وهل ينتج عنه اختلافًا في القيمة الاجتماعية والذاتية أيضًا.
وتنم تلك التساؤلات التي يطرحها الطفل عما يعانيه من مشكلات النفسية تبدأ بالنمو عنده رويدًا رويدًا، فيرفض التعامل مع هذا المجتمع ويلجأ للعزلة والانطوائية، كما يُلاحظ عليه قلّة أصدقائه؛ لذلك من الأهمية بمكان دمج هؤلاء الأطفال بالعالم الخارجي وتوعيتهم حول التعامل معه.