لأكثرِ من تسعِ ساعات في اليوم تعمل فاطمة رزق، في قسم النظافة بمجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة، دون أن تكترث لمعاناتها النفسية وإرهاقها الجسدي الكبيرين، وهي تترك أبنائها السبعة يوميًا للعمل هنا مقابل راتبٍ غير مُجدي ولا منتظم، لكن الحاجة كانت الدافع الأكبر دومًا خلف كل هذا، حسبما قالت.
وتعمل الخمسينية رزق هي وغيرها من العاملين في النظافة داخل أروقة المستشفيات والمراكز الصحية في ظروفٍ "خطرة" نتيجة عدم توفر وسائل الحماية من المخلفات الطبية، وعلى الرغم من ذلك فإنّ السيدة رزق تبدو لا تولي اهتمامًا لذلك كثيرًا بقولها: "العمر واحد والرب واحد، المهم ما يتأخروا في الراتب".
وهي تُشير بذلك إلى عدم نيلها وزملائها الراتب الشهري المُقدّر لها بـ (500 شيكلًا) أيّ نحو (150 دولار فقط)، شهريًا بانتظام؛ الأمر الذي يجعلها عُرضة لشفقةِ ذوي المرضى، وفق قولها، الذين يقدمون لها المساعدات المالية من حينٍ لآخر، فيما هي تقبل مُرغمة تحت سيف العوز والفاقة.
إنّ عدم انتظام الراتب يُخالف ما نصَّ عليه قانون العمل الفلسطيني رقم (7) لسنة 2000، في المادة (82) الذي أكّد على "وجوب دفع الأجر للعامل بالنقد المتداول قانونًا شريطة أن يُدفع وفقًا لأيام العمل ومكانه، وفي نهاية كل شهر للعاملين بأجرٍ شهري، كما لا يجوز تأخير دفع أجر العامل أكثر من خمسةِ أيام من تاريخ الاستحقاق".
وقالت رزق والحزن يعتريها، في مقابلةٍ مع "آخر قصة"، "يعرض عليّ أهالي المرضى أحيانًا 20 شيكل وأحيانًا أقل أو أكثر، مقابل اهتمامي بمريضهم ونظافة وترتيب سريره، فأقبل لأنني محتاجة وهناك أطفال في البيت ينتظرون قدومي غير فارغة اليدين".
هذه الأسباب أيضًا أو غيرها في ظروفٍ مُشابهة يعيشها 900 عامل/ـة من العاملين في قطاعِ النظافة داخل المنشآت الصحية، إذ يُوظَفوا عن طريق شركات نظافة خاصة موزعة على كافة محافظات قطاع غزة بواقع 83 مركز صحي ومستشفى، وذلك بحسبِ شبكة أريج للتحقيقات الاستقصائية.
ومن هؤلاء أيّضًا "مريم" التي تعمل بجانب فاطمة، وهي شابة لم تتجاوز الرابعة والثلاثين من عمرها، لكنها كما قالت، "صحيح أنا غير متزوجة لكني المعيل الأساسي في الأسرة، فهل يعقل أن أتقاضى راتب 700 شيكلًا كل شهرين أو أكثر مقابل هذا العمل وهو بالكاد يكفيني أجرة مواصلات من بيتي للمستشفى".
في الواقع، رفضت مريم المقابلة بدءًا ثم وافقت بشرط ألا تكشف عن هويتها، وذلك خوفًا من الفصل، تقول "يتأخر حصولنا على الراتب وقد يصل إلى 6 شهور، ولكن لمن نشكو؟ بالتأكيد نخشى الفصل ولا يوجد أمامنا بديل".
تعمل مريم في هذه المهنة منذ 5 سنوات، ومنذ ذلك الحين تبحث عن بديل عملٍ آخر يوفر لها ظروف أفضل، لكن عدم تمكنها من إكمال تعليمها ضيّق الفرص أمامها، فبقيت على حالها أمام اضطرارها إعالة عائلتها المكونة من 7 أفراد، بينهم اثنين من الأخوة العاطلين عن العمل.
وفي الوقت الذي تهرب فيه مريم وفاطمة من الوقوع في شِباك البطالة التي وصل معدلها إلى 47% في قطاعِ غزة، فإنهن يرضخن لظروف هذا العمل "غير العادلة" بموجب القانون الفلسطيني الذي وضع حدًا أدنى للأجور بلغ (1.880 شيكلا)، فيما يتقاضى هؤلاء العمال ما هو أقلّ بكثير في معادلة تكون نتيجتها أمران كلاهما مُرّ.
عبر سنوات اشتكى عمال النظافة في مستشفيات قطاع غزة من تأخر حصولهم على أجورهم لشهور متراكمة، فيما أعادت الشركات الخاصة ذلك لضعف التمويل، وقال "أبو طارق" مدير إحدى شركات النظافة في القطاع، "إنّ عدم دعم الحكومة للشركات على اعتبار أنها قطاع خاص، وعدم وجود ممول أو جهة داعمة يتسبب في هذه الأزمة".
وافقه الرأي الناطق باسم شركات النظافة في وزارة الصحة أحمد الهندي، قائلًا لـ "آخر قصة": "شركات النظافة التي تُوظِف العاملين تعاني أوضاعًا مالية صعبة، بحيث لا تسدد الحكومة المستحقات شهريًا؛ مما اضطر بعض هذه الشركات للإغلاق نتيجة تراكم الديون عليها لصالح التجار".
وقد أصبحت الكثير من شركات النظافة توفر فقط المتطلبات الأساسية للعاملين، وفق الهندي، فيما يعتمد بعضهم على القليل الذي تتلقاه من الجهات الحكومية لضمان استمرار عمل عمال النظافة المستشفيات وحفظ سلامة المرضى.
وحول الدور الرقابي لوزارة العمل لقيام هذه الشركات بمسؤولياتها تجاه العاملين، قال مدير دائرة شروط العمل في الوزارة حسين حبوش، إنَّ القانون الفلسطيني غير مُطبق فالوزارة لا تُخالف هذه الشركات نتيجة قصورها في تسديد مستحقات العاملين ولا تُلزِمها بتقديم ضمانات وتأمينات بنكية؛ تبعًا للأوضاع الاقتصادية التي تُعانيها نتيجة نقص التمويل.
فيما قال مختصون إنَّ هذه الأزمة الممتدة منذ أعوام، قد يكون أحدِّ حلولها أن تُراعي وزارة العمل في المناقصات الجديدة التي تُطرح للتعاقد مع شركات النظافة تطبيق قانون العمل الفلسطيني، إضافة إلى ضرورة تشكيل جسم نقابي يمثل عمال النظافة في المستشفيات ويحفظ حقوقهم.
وإلى اليوم لم تزال هذه المشكلة قائمة دون حلول عملية سواء من قبل وزارة العمل أو شركات النظافة الخاصة نفسها، وعلى إثرها يعيش هؤلاء العمال أوضاعًا اقتصادية سيئة وظروف حياتية قاسية للغاية.