في غزة: زجاج التاكسي وسيلة للتعبير عن الواقع

في غزة: زجاج التاكسي وسيلة للتعبير عن الواقع

"مَن جدَّ وجد ومن تخرجَ قعد"، "ماشية ببركة الله ما تطلع علية"، عبارات باللهجة الفلسطينية العامية دوِّنت على الزجاج الخلفي للسيارات المارة سواء كانت "ملاكي" أو "أجرة" وغيرها الكثير من العبارات الأخرى، تُثير الضحك تارة وتُثير الفضول تارة أخرى، وهي في جميع الأحوال تعكس أوضاعًا اجتماعية واقتصادية تعيشها شريحة كبيرة من السكان في قطاع غزة الذي يبلغ مساحته 365 كم² ويقطنه أكثر من اثني مليون مواطن. 

ويستخدم سائقون العبارات الملصقة كأداة للتعبير، في شكل أقرب ما يصطلح عليه (أدب التاكسي)، فمنها ما يكتب بمعاني مبطنة على شاكلة "لا أحد يحب لك الخير سوى شركة التأمين"، وأخرى بطريقة مباشرة "عضة أسد ولا نظرة حسد"، وجميعها لها غايات يرغب السائقون في إيصالها.

وتُعد مهنة السياقة من أكثر المهن التي يمارسها الغزاويون، إذ أنَّ سائقي التاكسي هم شريحة من شرائحٍ مجتمعية مختلفة ومتنوعة الثقافات والمستويات العلمية، منهم خريجين يعانون انعدام فرص التوظيف، وآخرون وجدوا في سيارةِ الأجرة ملاذاً آمناً بفعل عدم امتلاك حرفة أو شهادة علمية. ولعل هذا ما يُفسر وجود كمٌ هائل من السيارات في شوارع غزة، إذ يستورد القطاع ما يصل إلى 4 آلاف سيارة سنويًّا، وفق نقابة مستوردي المركبات. 

ويرى أصحاب محال كماليات السيارات أنَّ استخدام سائقون لهذه الطريقة في التعبير، هو أمرٌ ترفي ناتج عن مزاج خاص بالسائقين، وليس ظاهرة واسعة الانتشار.

ويقول علي العشي، وهو صاحب متجر لبيع كماليات السيارات: "احياناً يكون السبب وراء استخدام الملصقات هو ارتفاع أسعار المركبات في قطاع غزة، فيُلاحظ أن عبارات الخوف من الحسد تنتشر بشكل أكبر من غيرها من الجمل التعبيرية التي يلصقونها على الزجاج الخلفي للسيارات".

وتزيد قيمة السيارة في قطاع غزة عن ثلاثة أضعاف مثيلاتها في الدولِ الأخرى، حتى من الموديلات التي تجاوز عمرها العقدين من الزمن، وذلك يرجعه اقتصاديون إلى ظروف الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 15 عامًا، والقيود التي أعاقت عملية استيراد السيارات لسنوات طويلة. 

على زجاج احدى السيارات التي توقفت لتقل الركاب من شارع الرمال غرب مدينة غزة لمدينة رفح جنوبًا، طُبعت عبارة "ما تطلّع يا لوح جايبها بطلوع الروح" والتي كتبها الثلاثيني أحمد خليل على سيارته بعد أن استمر عشر سنوات في ادّخار ثمنها الذي تجاوز 10 آلاف دولار مُعبرًا عن سبب استخدامه هذه العبارة، وهو يُخفي ضحكته: "والله شريتها بطلوع الروح ما بدي حد يصيبها بالعين وقرأت الجملة عند محل الكماليات وعجبتني".

واعتبر السائق المُهندم الذي تخرج من دبلوم متوسط قسم تربية طفل، قبل أكثر من ثمانية سنوات ولم يجد فرصةً للعمل في مجاله، فتوجه للعمل على سيارة أحدِّ أقاربه إلى أن امتلك سيارته الخاصة، أن كتابته على الزجاج نوع من تعبيره عما يجول في خاطره، وخاصّة أنَّه واحد من آلاف الخريجين الذين يُعانون البطالة والذين زادت نسبتهم عن 47%.

كما عبّر الشاب أحمد خليل عمّا في نفسه، فإنَّ الكاتب والروائي خالد جمعة يرى أنَّ أسلوب كتابة العبارات على زجاجِ السيارات هو انعكاس لحالة المجتمع وظروفه الاقتصادية والاجتماعية، موضحًا أنَّ الشعوب تبحث دائمًا عن طُرق مختلفة للتعبير وإيصال الأحاسيس سواء كانت بالتظاهرات السلّمية أو العنيفة أو الكلمات، وهذه الظاهرة مُنتشرة في كل دول العالم وهي تأخذ شكل من أشكال التورية".

وقد تنوعت العبارات التي يستخدمها السائقون ومنها: "احسدوني لما أسدّ ديوني"، أو "ماشية ببركة الله ما تطلع علية"، "الله يحميكي من الميكانيكي" وغيرها، فيما يُشير الكاتب جمعة إلى أنّه من الطبيعي استخدام كلمات تُعبر عن التعب النفسي والخوف من الحسد والسعي للحرية في مجتمعٍ يُعاني من الحصار والظروف الاقتصادية الصعبة.

ولا يتوانى السائق سائد عصام عن تجديد العبارات التي يُلصقها على زجاجِ سيارته: "بحب أغيّر في الجمل المكتوبة على سيارتي والزينة المُعلقة وألفت الانتباه الها وأدللها"، وقد كانت آخر العبارات التي ألصقها على سيارته "اصرف عليها بنزين وانبسط ولا تصرف عليها مكياج وتنجلط"، وقد مرر من خلالها رسالة لوالدته وعائلته عن رفضه لطلبهم ببيع السيارة واستثمار ثمنها في الزواج، حسب قوله.

من جهتها، اعتبرت المختصة النفسية والمجتمعية نهى الشنطي أن هذه العبارات ليست سوى تفريغ نفسي وتعبير غير مباشر عن الظروف التي يعيشها السائق سواء في أسرته أو مع أصدقائه أو حتى في مهنته المليئة بالمصاعب وقد تكون طريقة يستخدمها بعضهم في المنافسة وجلب الركاب المُتراصين على جنبي الطريق.

إنَّ من هذه العبارات ما يبقى عالقًا في الذهن لفترات طويلة مستخدمين إياه في إطارِ السخرية من الأوضاع السائدة كتعبيرٍ عن واقعٍ خانق وبصيص أمل فيه بلا وميض، بينما تختلف طرق تعبير الناس عن أحوالهم وظروفهم، وقد تتنوع الذائقة في اختيار السائقين للعبارة الأنسب من واحدٍ لآخر، حسب منظوره للحياة ومستواه الفكري والثقافي.