حاملات التراث: صوت نسائي للحفاظ على المورث الغنائي   

حاملات التراث: صوت نسائي للحفاظ على المورث الغنائي   

في مجتمعٍ يتَحفظ على غناء المرأة، شاركت ثلاث نساء فلسطينيات من قطاع غزة، في صِناعة ألبوم غنائي صُمم لينقل تجربة التراث الشفوي إلى مسامع الأجيال الجديدة.

إنّ الجديد في هذه التجربة دونًا عن غيرها أنَّ كلمات الأغاني جُمِعت من لسان حاملات التراث (الجدات اللواتي تجاوزن الستين من عمرهن)، وجرى توثيقها في سياق مؤسساتي بعيداً عن الدور الرسمي في حفظ وتوثيق التراث الشفوي.

"والله يا عين لحرق رمشكي بالنارِ، يا لي هويتي الردي والطيبين كثارِ"، نص كهذا يتجاوز عمره عشرات السنوات، تُردده روان عكاشة وهي شابة فلسطينية في الثلاثينات من عمرها، وشاركت مع اثنتين من الفنانات الفلسطينيات لتوثيق هذا النوع من التراث الغنائي.

تقول روان، التي شاركت في مهرجان التراث الفلسطيني قبل نحو عقد من الزمن، إنها سعيدة جدا بمشاركتها في هذا الألبوم التراثي، مبينةً أن كلمات الأغاني تحمل الكثير من المشاعر بين فرح وحزن، وأفادت أنَّها تُواجه الكثير من التحديات نتيجة مشاركتها في مِضمار الفن، وبخاصّة أنَّ مشاركة العنصر النسائي في الغناء يعد شيئاً مستهجنًا في مجتمعٍ تطغى عليه العادات والتقاليد.

وأشارت الفنانة عكاشة، إلى أن حِدّة الانتقادات المجتمعية تتراجع كلما كانت الأغاني التي تغنيها ذات طابع تراثي، على عكس الأغاني العاطفية، وقالت: "الجمهور ليس من السهل أن يتقبل فكرة أن تغني الفتاة، رغم أن لدينا الكثير من النماذج الفلسطينية الرائدة مثل دلال أبو أمنة وسناء موسى وحتى عربياً لدينا جوليا بطرس مثلاً، وجميعهم يغنون أغاني تراثية وتركوا أثراً جميلاً".

ولفتت إلى أنَّ هناك الكثير من الانتقادات التي تواجه الفنانات في قطاع غزة خصوصا أولئك اللواتي يُغنِين الأغاني العاطفية، فضلاً عن التحديات الأمنية المتعلقة بتأخير منح التراخيص لإقامة الحفلات أحياناً.

وتطمح الفنانة عكاشة، إلى أن يصل صوت الفتيات لأبعد حدود، "لأن صوت المرأة مطموس في مجتمع غزة، ولكن على الرغم لازال لدينا أمل بالوصول" كما تقول.

الألبوم الغنائي الذي شاركت "روان" في تسجيل بعضاً من أغانيه التراثية رفقة زميلتيها، يُشكِّل ثمرة تعاون مشترك بين جمعية "نوى" للثقافة والفنون ومؤسسة جفرا للإنتاج الفني، ويضمّ الألبوم ثماني أغنيات عن مناسبات اجتماعية ودينية مختلفة لسكان دير البلح وسط قطاع غزة.

"احبابنا من قشلهم فرطوا فينا.. من قلة المال باعوا واشتروا فينا"، تغني الحاجة أم هايل من سكان محافظة دير البلح لأحفادها، وتقول إنّها حفظت هذه الأبيات والعشرات غيرها عن أمها وأبيها اللذان كانا يعملان جنباً إلى جنب على طحن القهوة باستخدام "الجرن" (حوض خرساني لطحن القهوة العربية).

تقول السيدة التي ترتدي فستاناً أبيضاً مزين بالتطريز، إنها تعنى بحفظ التراث مذ كانت طفلة وقد كانت حينها تسترق السمع إلى والديها وهما يغنيان أغاني تراثية قديمة، حتى باتت تغني عشرات الأغنيات وتنقلها لأحفادها اليوم".

ترى هذه السيدة ذات اللكنة البدوية وهي واحدة من الجدات اللواتي يطلق عليهن (حاملات التراث)، أن هذا النوع من التراث هو وسيلة للتمسك بإرث الأجداد وإرفاد ذاكرة الأطفال بالأبيات الشعرية التي تحمل دلالات رمزية على التمسك بالأرض.

وتلفت السيدة إلى أنها وعشرات النساء الأخريات من نساء المحافظة، لا زلن يُغنين هذا النوع من الأغاني التراثية في المناسبات المختلفة، سواء حفلات وداع الحجاج أو الأعراس أو طهور المواليد، وغيرها.   

وربما كانت بعض الأغاني التي تُحكَى باللهجة المحلية البدوية، ينتابها شيء من الغموض وعدم فهم الكلمات بشكل واضح للمستمع، وهذا ما دفع بالسيدة ريم أبو جبر مديرة مؤسسة نوى للثقافة والفنون، إلى أن تطلب من النساء اللواتي يجلسنَ في جلساتِ السمر النسائية شرح الأبيات قبل غناءها، ومن ثم أصبح لديها رغبة بتبني الجمعية لفكرة جمع هذا الإرث التراثي حتى ينقل إلى الجيل الجديد.  

وقالت أبو جبر: "إنَّ الهدف الحقيقي الذي نسعى إليه من خلال جمع وتوثيق الأغاني هو الحفاظ على الموروث الشفوي الذي تحفظه الجدات في منطقة دير البلح وبخاصة أنه يعزز الهوية الفلسطينية ويزيد تعزيز قدرة المجتمع على فهم المدلولات التاريخية".

بيد أن، سوسن زايد وهي منسقة ميدانية في جمعية "نوى"، قالت إن الجمعية سعت لجمع الأغاني التراثية من النساء حاملات التراث في منطقة دير البلح بوجه خاص، على اعتبار أن هذه المنطقة لا تَزال تُواظب على ممارسة هذا النوع من الفن في المناسبات الاجتماعية إلى يومنا هذا، كنوع من التمسك بالإرث الشفوي الخاص بهذه المحافظة".

وأضافت زايد "إن رحلة جمع الأغاني بدأت منذ عام 2018، وانتجت الجمعية العام الماضي الألبوم الأول بعنوان "دابا"، وفي سبتمبر الماضي أطلقت الألبوم الثاني بعنوان ليوان (مكان يجتمع فيه رجال العائلة)، مبينة أن الأغاني ترتبط الكثير من الموضوعات والمناسبات وهي في مجملها تعكس وتحاكي حياة أهل المنطقة في مناسبات الحصاد والحج وطهور الأولاد والاحتفاء بالبنات وتغنيهم بكرم أهل المنطقة والشجاعة والأثار.