"ستّي إلها ثوب وشال، عالثوب مطرَّز غزال، جنبه ورود وسنابل، من حواليها سبع جبال"، على وقعِ هذه الأهازيج كانت تُزف العروس الفلسطينية قديّمًا مرتدية ثوبها بألوانه المبهجة، والنسوة خلفها ترشها بزهرِ الحناءِ العنقوديّ الأبيض وأوراقها الخضراء ورائحتها الذكية تغمر الحضور.
تبدأ التحضيرات لهذا الحفل قبل أيام وقد تمتد لأسابيع من موعد الفرح، تتضمن تزيين الخيول وبيوت الشَعر وصنع الطعام الدسم المطهو على الحطب، وتستمر المراسم منذ ساعات المساء الأولى وحتى منتصف الليل، يُشارك في طقوسها جميع أبناء القرى الفلسطينية في أجواءٍ جماعية تحمل الريح على إثرها أصوات الغناء من بلدةٍ إلى أخرى.
الشيء اللافت في هذا العرس، كان الثوب المطرز والذي تحكي الجدات في تأريخ تطوره، أنه كان لكل غرزة فيه دلالة على مجموعة من السكان ينتسبون لقرية معينة ذلك قبل نكبة عام 1948.
ولهذا الطَرز المنقوش بتجاعيدِ أيدي الجدات أصولٌ وفنون، وإن كنا لسنا في صدد التأريخ له بقدر ما يثيرنا السؤال عن عودته وبقوة إلى الأعراس في الوقت الراهن؟، لكن من وجهة نظر المُسنّة حليمة جاد الله (65 عامًا)، فإن الثوب المطرز يجب أن يكون في حقيبة كل عروس فلسطينية.
تشير السيدة جاد الله وهي من مواليد قطاع غزة، وتنحدر من أسرة لاجئة، إلى أنها حافظت على هذا الإرث منذ زمن طويل، وعكفت على صُنع العديد من مثله لبناتها وحفيداتها بالخيطِ والإبرة، ويمثل هذا الأمر بالنسبة لها جزء من تمسكها بالهوية والتراث الفلسطيني.
في واقع الأمر، سحب الثوب العصري البساط من تحت الثوب الفلسطيني المطرز، حيث أصبح مع مرور الوقت وبخاصة بعد اللجوء الفلسطيني بعقدين على الأقل (حقبة السبعينيات) الفستان الأبيض هو الزي التقليدي للعرائس، وهو بالمناسبة تقليد غربي وعربي أيضًا متعارف عليه.
غير أن هذا التقليد من وجهة نظر مديرة مركز التراث الفلسطيني في بيت لحم، مها السقا، يعد سببًا رئيسيًا وراء اختفاء الثوب الفلسطيني من الأفراح بعد أن كان سمّة تُميز العروس الفلسطينية لوقتٍ طويل من الزمن.
تقول السقا في سياق حديثها لـ"آخر قصة" "إن اندثار ثقافة ارتداء الثوب الفلسطيني، جاءت بسبب الزحف الأجنبي الدخيل علينا".
لكن تَغيُّرًا عكسيًا قد طرأ خلال السنوات الخمسة الأخيرة على الأقل، نحو إقامةِ الفتيات الفلسطينيات حفلاتِ زفافهن بالثوبِ الفلسطينيّ الأصيل، في إشارة إلى حمايةٍ هذا الموروث الفنّي الشعبي الذي يُمثل هوية وتاريخ عريق لا يمحوه الوقت، وفقًا لـ"السقا" التي أشارت أن أجواءِ ومراسم الأعراس الآن أصبحت تحمل رائحةَ البلاد وتتقاطع في شكلها مع أفراح الأجداد.
يتقاطع ما قالته السقا، مع ما ذكرته العروس مها جمال (24 عاماً) بأنها أثرت أن يحتل الثوب التراثي المطرز، مساحته في حفلة الحناء (ليلة تقيمها النسوة احتفاءً بالعروس قبل موعد الزفاف بيوم واحد)، وقد شاركها ارتداءه مجموعة كبيرة من صديقاتها وفتيات العائلة.
هذا الطقس الذي يرمز إلى الماضي الفلسطيني، تخلله وصلات غنائية تراثية كالدبكة والدحية وغيرها من الأهازيج التي كانت شائعة قبل أكثر من سبعين عاماً، ولايزال يعلق في ذاكرة العروس "مها" كوبليه "مدي دياتك يا مريم مدي دياتك يا هاي.. نادي خياتك يا مريم يا هاي.. حناكي مرطب يا مريم حناكي مرطب يا هاي".
وأشارت إلى أن امتلاك العروس لثوب مطرز في هذا الوقت الذي تتضخم فيه قائمة النفقات على احتياجات العرس، في ظل محدودية دخل الشباب بفعل الحالة الاقتصادية المتردية، يشكل عبئًا كبيراً ويثقل جيب العروسين، لكنه "أمرٌ لابد منه"، تقول متهكمةً.
وهربًأ من تكلفة امتلاك فستان مطرز يدويًأ بقيمة تتراوح بين (1000- 3000 شيكل)، قامت هيا أحمد التي تزوجت حديثاً، باستئجار ثوب مطرز لارتدائه ليلة الحناء بقيمة 300 شيكل، وقالت إنها كانت حريصة على أن تكون حنائها يغمرها شيء من التراث الفلسطيني القديم، أسوة بغيرها من العرائس.
يشرح المؤرخ والباحث الفلسطيني وليد العقاد، شكل الثوب الفلسطينيّ أنّه ثوب أسود أو أبيض اللون مُطرّز على القَبة بشكلِ القوس وبألوانٍ زاهية، يتدلى منه عروق شجرة السرو قليلًا، وعلى الأكمام خطين رفيعين من اللونين الأرجواني والأخضر، ومن الأمام كذلك خيوط عمودية وملونة، لكن الكثافة في التطريز تعود إلى الجانبين (المناجل/ البنايق) بشكلٍ مُسنن وعرضي، فيما يأتي على الخلف أيّضًا طرز مُسنن وشراع يعلوه شجرة السرو بنفس الأشكال في القبة.
وتُشير الإحصاءات إلى وجود 56 مركزًا مُتخصصًا بالتراث والثقافة في قطاعِ غزة حتى عام 2019، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، بينما يفتقد القطاع إلى وجود إحصاءات رسميّة حول المراكز العاملة المتخصصة في حياكة الملابس بالتطريز الفلسطيني تحديدًا.
غير أنّ عودة الثوب المطرز إلى الساحة الفلسطينية بدأت تتجلى من خلال ظهور اهتمامات فردية وجماعية، وفق مدير عام الفنون والتراث في وزارة الشباب والثقافة عاطف عسقول، الذي أشار إلى إقامة وزارته دورات تدريبية حول أهمية التراث الفلسطيني ودوره في ترسيخ الهوية الفلسطينية وإثبات ملكيّة الأرض، ففي ارتداء الثوب دلالة على البلدة والقرية التي هُجِرت منها هذه المرأة وأجدادها عام 1948.
وقد ساهمت العديد من الحملات التي أطلقتها جهات إعلامية رسمية وتفاعل معها العديد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة الفرح التراثيّ، منها حملة "ثوبي تاريخي" التي أطلقها التلفزيون الفلسطيني مطلع هذا العام، كجزء من مواجهة ما يعرف بمحاولة الاحتلال نسب الثوب الفلسطيني إليه وتسجيله أثوابًا فلسطينية باسم إسرائيل في الموسوعات العالمية.
ولا يعرف إذا ما كان التقليد الجديد، بدخول العروسين اليوم لقاعات الزفاف العصرية المكتنزة بالإضاءات المُلونة وكاميرات التصوير الحديثة، مرتدين الزيّ الفلسطيني القديم مُطورًا بشيءٍ من العصرية اللافتة كجزء من التواصل بين الماضي والحاضر، نتيجة لتلك الحملات، ولكنها أصبحت ظاهرة ملحوظة. ولا تكتفِ العروس بقطعة الثوب المُطرزة؛ بل تُضيف عليها "الإكسسوارت" أيضًا وطرحة الرأس الخلابة، وقد يلازم ذلك وصلة غنائية تراثية، تستمر الفتيات بين غمز ولمز بالحديث عن جماليتها لوقت طويل.