في مشهدٍ هو الأكثر رسوخاً في ذاكرة الفلسطينيّ من مسلسلِ التَغريبة الذي يُمثلُ مشهد حقيقي لهجرةِ عام 1948 حين حزمت أم أحمد بعضَ أمتعتها المُهمة في بقجة، ومثلُها الآلاف قد فعلوا، كان مصطلح البُقجة رمزًا لتلك المأساة إلى أن ظَهرت اليوم بشكلٍ جديد يرافقُ الموائد والنزهات ومواسم الأفراح لحفظِ الطعام ساخنًا، فما حكايتها؟
تُعرَف البقجة في اللغة أنّها الصُرة من الثياب، فيما يُقال لها في اللهجة الفلسطينية "بكجة" وهي عبارة عن قطعة قماش كبيرة مُربعة تحزم داخلها الأمتعة الضرورية، ولعلّها برزت بوضوح في هجرة الفلسطينيين عام "النكبة" 1948، وتحوّلت إلى تراث وفولكلور فلسطيني محضّ لا يمكن القفز عنه، ورغم الفارق الكبير بين استخدام الأمس واليوم إلا أن البقجة ما تزال رمزًا حِرفيًا يدويًّا لبراعة النساء الفلسطينيات في صناعةِ الأدوات المُساعدة على الحياة من الغزلِ والخيطان.
لقد عادت البقجة اليوم على هيئة كيس قماشي سميك حراري مُخطط بالأحمر والأخضر والأبيض، يُشبه ألوان الخيمة كتعبيرٍ عن التراث البدويّ، خاصة أنّ جزءًا ممن يصنعن هذه البقجة في قطاع غزة هُنّ نساء يقطُنَّ في قرية أم النصر البدوية، التي تُعد واحدة من 28 عشوائية موزعة في قطاع غزة، ويعيش فيها الآلاف ممن يعانون الفقر ويسلكون كل طريق للعمل والنجاة.
قابلت "آخر قصة" السيدة الخمسينية أُم مُحمد والتي تقضي عشرَ ساعاتٍ يوميًا في صناعة البقج حيث تبدأ بترتيب طبقات القماش المتتالية التي تزيد عن خمسِ طبقات أهمها "الديباج" الحافظ للحرارة، ومن ثم تبدأ ومَنَ معها من السيدات بالخياطة اليدوية بالإبرة والخيط غرزة غرزة، إلى أن ينتقلن لخياطة الماكنة أخيرًا.
وعبّرت أم محمد عن سعادتها بصناعة البُقج سواء على سبيل تحسين أوضاعها الاقتصادية أم الحفاظ على التراث الفلسطيني، ووصفتها بـ "الاختراع المفيد"، كما أضافت أنّها هي أيّضًا تستخدمها في مطبخها وقد أفادتها جدًا خاصّة في شهر "رمضان" عندما تطهو مُبكرًا وتذهب إلى عملها فيبقى الطعام محتفظاً بحرارته حتى موعد الإفطار.
وبعيداً عن أم محمد، تقيم جمعيّة زينة التعاونية الواقعة في "القرية البدوية" شمال قطاع غزة، معملاً للخياطة تتواجد فيه خمسة عشرَ سيدة يوميًا، يعملن على إنتاج مشغولات يدوية من بينها "البقجة".
ووفقاً لمنسقة المعامل في الجمعية أسماء أبو قايدة، فإن أعمار العاملات تتراوح ما بين 25 إلى 50 عامًا، ويُنتجِن مشغولات يدوية قماشية ولكن التركيز الأكبر يكون على إنتاج "البقج".
ويُعدُ خط إنتاج البقج هو أحد خطوط إنتاجِ العاملات في الجمعية التي أنشأت لغاية تمكين النساء اقتصاديًا واجتماعيًا في القرية المهمشة والمسماة "أم النصر"، كما أنًّ جميع العاملات فيها هُنّ من نساء المنطقة اللاتي قررن صُنع عمل خاص بِهن.
في حديثِ أبو قايدة لـ "آخر قصة" أكّدت أنّ الجمعية تتكون من معمليّ خياطة ونِجارة تُدِيرها النساء لإنتاج عددٍ من المنتجات أهمها الألعاب الصديقة للبيئة والطفل، كما أصبحت حديثًا البقجة أهم انتاجاتهم بعدما التحقوا بدورةٍ تدريبية لتعلُم صُنعها بطريقة مُطورة.
لقد كانت البقجة على مرِ العصور وسيلة بشرية لحزمِ الأمتعة، فلم يأتِ مشهد المهاجرين في التغريبة الفلسطينية عبثًا، بحسب الباحث في علمِ الآثار والتاريخ الفلسطيني وليد العقاد، الذي أفاد في حديثٍ لـ "آخر قصة" أنَّ الناس كانوا يستخدموها عوضًا عن الحقيبة ويحملونها إما على ظهورهم أو فوقَ دوابهم.
ورغم أهمية البقجة إلا أنّها تُعاني من صعوبةٍ في التسويق في قطاعِ غزة، وذلك نتيجةً لما يُعانيه القطاع من أوضاع اقتصادية صعبة وارتفاع مستمر في معدل الفقر الذي بلغت نسبته 53% بحسبِ مركز الإحصاء الفلسطيني؛ مما دفعَ جمعية "زينة" للبحث عن آفاقٍ أخرى للتسويق إضافة لمحاولات ضئيلة للتصدير للضفة الغربية بواسطة عبر خدمات التوصيل.