في مجتمعٍ قلّما تُحدِث فيه النساء ضجّةً صاخبة حول حقوقهن الماديّة تحت وطأة ثقافة "العيب"، يستحوذ الكثير من الذكور على الثروة والعقار.
وفي ظل عدم وجود قانون فلسطيني صريح يُلزِم الورثة بتوزيع التركات "ثروات وعقارات المتوفى"، خلال مدة 6 شهور بعد موت المُوَرِث، يستولي ذكور عدد من العائلات، على الميراث عبر حيل وممارسات غير قانونية، وأحياناً تتنازل الإناث تحت رابطة الدم، وتارة بالخجل، عن حقهن في الملكية الخاصة لذويهن بعد وفاتهم.
وتواجه العديد من النساء في قطاع غزة -اللواتي شكلن ما نسبته 49% من المجتمع وفقاً لمركز الإحصاء الفلسطيني- مصائر متعددة للحرمان من الميراث، على الرغم من أن ذلك يعد تجاوزا للحقوق الشرعية والقانونية معاُ.
وقد نص الدين الإسلامي على حق المرأة الكامل في إرث الوالدين والأقارب بعد وفاتهم، وفق قسمة مُوضحة ومُفصلة بدّقة في الشرعِ والقانون؛ غير أنه ونتيجة لهيمنة سلطة العادات الاجتماعية أو خوفاً من وصم النساء اللواتي يطالبن بحقوقهن، بأنهن خارجات عن القواعد الأسرية، تضيع حقوق الكثير منهن سواء كُن عازبات أو متزوجات.
ولم يتسنى لنا الحصول على أرقام دقيقة حول قضايا الميراث التي لا تزال قيد التداول في أروقة القضاء، حيث أشارت مصادر قضائية في قطاع غزة، لـ"آخر قصة"، أن هناك صعوبةً في حصر القضايا من هذا النوع، على اعتبار أن الكثير منها متشابك ويصعب تصنيفها، لاسيما أن بعضها يترافع فيها الورثة في إطار تزوير أو اختلاس، أو تَهجُم.
في المقابل، صرّحت وزيرة شؤون المرأة آمال حمد، بأنّه خلال العام 2019 3% فقط من النساء الفلسطينيات، حصلن على حقهن الشرعي والقانوني في الميراث، نتيجة عدة تحديات ترتبط بالنسيج الاجتماعي في فلسطين، ما يعني أن 97% من النساء اللواتي لهن حصة في عقارات أو ثروات موروثة عن أبويهم، حرمن منها.
نرمين علي (اسم مستعار) هي واحدة من النساء التي تعرضت لحرمان من الميراث، وقد اضطرت لتحويل قضيتها إلى الرأي العام بعد أن استنفدت كافة الحلول القضائية.
تقول نرمين: "والدي متزوج امرأتين ولديّ أخوة من أبي وآخرين من أمي، ومجمل عددنا 15 ولد و8 بنات. بدأت المشكلة عندما حاول اخوتي الكبار من أبي السيطرة على الأملاك بدون وجه حق.. والدي يملك 16 دونم أراضي وشركة تجارية ومحلات صغيرة، كل تلك الأملاك يحاول أشقائي الكبار السيطرة عليها".
ومع احتدام المشاكل الأسرية، توصل الأبناء إلى حل يقوم على توزيع الإرث عن طريق قسمة رضائية فيما بينهم من دون البنات، حسبما قالت.
تُدرك نرمين أنَّ لديها حق عند اخوتها، وترفض التنازل عنه، وقالت في حديثها لـ "آخر قصة": "سآخذ حقي رغمًا عنهم، لقد توجهت للقضاء ولم يفيدني وإلى جهة مختصة في حلّ النزاع ولم نتوصل إلى حلّ؛ لهذا أعِرض المشكلة على الرأي العام".
يقع الحرمان من الميراث نتيجة أسباب عدة على الرغم من فهم بعض الفاعلين بنصوص التشريع الإسلامي، لكن جزءًا منهم يعتبر إيفاء المرأة حقها هو "عيب" مجتمعي، وجزء آخر يطمع عندما يكون الإرث كبيرًا، وهناك مَن يسكت على توزيع الميراث لسنوات طويلة قد تصل إلى 20 و30 عامًا فتدخل في التركة أجيال متعددة وتضيع الحقوق.
ويقول رئيس المحكمة العليا الشرعية مصطفى الطويل، في حديث سابق نقلته وكالة "وفا"، إن "الشرع تولى تفصيل الميراث لمساواة الرجل والمرأة في أهلية التملك، وإن المرأة لها حق التملك مثلها مثل الرجل، فمن حقها أن يكون لها ذمة مالية مستقلة".
وأكّد الطويل على أنّه بإمكان المرأة في حال حرمت من الميراث، أن تتوجه إلى المحكمة للحصول على حقها الشرعي في الميراث. قولٌ قد يبدو في ظاهره منطقي ويسير، لكن عدد من النساء اللواتي قابلناهُن في سياق هذا التقرير، وقد حرمن من حقهن في الثروات والعقار، لا يملكن القدرة المادية على التوجه للقضاء.
توضح المحامية الشرعية سمر أحمد، أن قضايا الميراث هي جزء من القضايا المطروحة في المحاكم؛ لكنها تعتبر الأقل مقارنة بغيرها من القضايا. وتُرجِع ذلك إلى سببين، الأول: أن بعض النساء ليس لديهن المال الكافي لرفع دعاوى قضائية وبخاصة أنّها مُكلفِة ماديًّا، أما السبب الآخر فهو المانع الأدبي الذي يَحول بين أن تقوم العديد من النساء برفع قضايا على إخوتهن مثلًا على اعتبار أنهن داعم معنوي لهن.
ابتهال (اسم مستعار) هي أيضًا حُرِمت من الميراث بشكلٍ تعسفي، وبينما يتمتع اخوتها بحقها من إرث والديها تعيش هي في بيتٍ من الصفيح وما بين الصيف والشتاء يسوءُ وضعها أكثر فأكثر، تقول لـ "آخر قصة": "كان والدي مريض فشل كلوي وفي وضع صحي صعب نتيجة غسيل الكلى، وفي هذه الظروف دفعه إخوتي للتوقيع على ورقة تُسقِط حق البنات من الإرث".
تُضيف ابتهال: "قاموا بعمل ورقة بيع شراء لممتلكات والدي ودفعوا مبالغ كبيرة كرشاوى لواحد من المحامين. عندما عرفت فقدت عقلي وتوجهت لمحامي فأخبرني أنّني وأخواتي البنات ليس لنا اسم في أملاك أبي، وطلب أجر كبير لا نملكه حتى يتولى إجراءات فتح القضية".
ابتهال هي حالة من آلاف الحالات التي تُعاني الأمر نفسه، لذلك طرحنا سؤالًا مفاده ما دور المراكز المختصة بالمرأة في حالة عجز النساء عن توكيل محامين؟، أجابت عليه المحامية سهير البابا من مركز شؤون المرأة بغزة، قائلة: "المركز يقدم مجموعة خدمات تكاملية للمرأة في مختلف القضايا لاسيما قضايا الميراث، تتلخص في الجانب النفسي، الاجتماعي، والقانوني".
ويأتي دور المركز في الإطار النفسي والاجتماعي من ناحية أنّ غالبية النساء تزور المركز وهي مُنهارة نتيجة معاناتها للعنف اللفظي والجسدي، وفق قول البابا، مشيرة إلى أن النسوة لا تستطيع التعبير عن مشكلاتهن ومن ثم يجري تحويلهن إلى قسم إدارة الحالة حتى يتم دعمهن نفسيًا، من أجل أن يتمكّن من التعبير عن مشكلاتهن من الناحية القانونية.
ومن هنا يقوم محامو المركز بتقديم استشارات قانونية للنساء اللواتي يُحرمن من الميراث، "فيتمّ إرشادهن حول كيفية المطالبة بحقوقهن من خلال تعريفهن على الأوراق الثبوتية التي تُساعدهن في ذلك، فمعظم النساء، بحسب البابا، تأتي المركز وهي لا تعرف حقوقها وواجباتها ولم تقم بعملية حصر الإرث أو عدد الورثة، فيقوم طاقم المركز القانوني بإرشادها، وإذا احتاجت حصر إرث فيتمّ مساعدتها في المحاكم الشرعية" حسبما قالت المحامية البابا.
وتُشير إلى أنَّ المركز يقوم أيّضًا بتوجيه النساء إلى نقابة المحامين في حال احتجن إلى تمثيل قانوني في المحاكم النظامية، بينما نوّهت إلى أنَّ ما يمنع العديد من النساء المطالبة في حقوقها بالميراث هو أنّها تأخذ وقت طويل في المحاكم، وعزت ذلك إلى عدم وجود قاضٍ مستقل ومُتخصص في قضايا الميراث تحديدًا في محاكم قطاعِ غزة حيث يتم النظر إليها مع مُختَلف القضايا النظامية الأخرى.
وفي الوقت الذي تحاول فيه بعض النساء التوجه إلى أهل القانون للحصول على حقوقهن حتى وإن أعاقتهن ظروفهن الاقتصادية، ترفض نساء أخريات تدخل جهات مختصة وتُفضِل الحلّ في إطار العائلة؛ ما يضطر المرأة إلى الموافقة على أيّ حلّ يطرحه الورثة حتى لو كان ذلك متعارض مع الشرع والقانون على حد سواء.
وعن الأثر الأسري الاجتماعي نتيجة هذه القضية، تقول الأخصائية الأسرية حكمت المصري، "يعتبر العائق الاجتماعي من أهم الصعوبات التي تواجه المرأة في عملية حصولها على الميراث لأننا نعيش في مجتمع ذكوري يجعلها تتخبط عند اتخاذ القرار".
وتؤكد الأخصائية المصري أن هناك العديد من النساء اللواتي يتعرضن للتهديد بالطلاق من أزواجهن نتيجة إجبارهن على المطالبة بحصتهن في الميراث، أو التهديد من إخوتهن الذكور بنبذهن والتخلي عنهن، داعين إياهم إلى التخلي عن حصصهن وحقوقهن.
وفي غمرة التعقيدات المجتمعية التي تحرم إناثًا من حقهن في الميراث، يرى المستشار القانوني سمير حسنية أن المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى تشريع قانون جديد يُلزِم الورثة بتوزيع التركات "عقارات المتوفى" خلال مدة 6 شهور بعد موت المُوَرِث.
وقال حسنية لـ"آخر قصة"، "هذا القانون يُفيد بإلزام الورثة أن مسألة التقسيم هي قانونية بحتة، كما يُفيد بتقليل الفترة الزمنية بين موت المُورِث وتوزيع التركة".
في هذا السياق، توجهنا إلى مدير عام الشؤون القانونية في المجلس التشريعي بقطاع غزة أمجد الأغا؛ لسؤاله حول جهود المجلس التشريعي في إطار سنّ قانون جديد يُلزم الورثة بتوزيع التركات ضمن فترة زمنيّة مُحددة، وقال: "يوجد في المجلس التشريعي مشروع قانون حول تصفية التركات بما يتعلق بالإناث والذكور ولكننا نركز على المرأة لأنها الحلقة الأضعف دائمًا".
وأكّد على أنّ هذا المشروع خضع للنقاش ضمن ورشة عمل قبل نحو شهر، وما زال تحت الدراسة، حيثُ يتضمن نصوص جزائية في حالة تلكؤ أحد الأطراف عن عملية التقسيم، حسب قوله، فيما يعطي المجلس التشريعي أولوية للموضوع عن طريق التوصل لحلول تقسيم التركات إما بالتعديل على قانون الأحوال الشخصية أو سنّ قانون خاص في الفترة القريبة المُقبلة.
لا تقل مُعضلة حرمان المرأة من الميراث عن المشكلات المجتمعية الأخرى أهمية وفتكًا في تعاضد المجتمع؛ الأمر الذي ينتج عنه تفكُك أسري كبير، وقطع للأرحام، وكراهية تمتد بين الأخوة وأبنائهم لأجيال، لذلك تتطلب الحاجة الماسّة تدخل قانوني يُلزم الورثة بتوزيع الميراث حفظًا للمصلحة العامة وزيادةً في ترابط المجتمع وتماسكه.