ذلك الطفلُ الذي كَان يُزاحم والدته المَطبخ في يومِ الجُمعة خلال إعدادِها وَجبات الغَداء الشهيّة، يلعبُ بالبهارات و"عيون الغاز" عن جهلٍ حينها، هو أنا يوسف قديح الذي أصبحتُ اليوم لاعبًا ماهرًا وطاهيًا جيّدًا، يرتادُ صفحتي المكتظة بفيديوهات الطبخ على "الانستغرام" آلاف المتابعين مُعبرين عن إعجابهم بالوصفات وطريقة التصوير التي تتوسط الطبيعة الغنّاء.
العمل على إعداد أكلة هو سبيلي للترويح عن نفسي والخروج من ضغوطات الحياة، واللعب في البهارات وخلق نكهات جديدة هو الفنّ الذي أملكه، لكن بالتأكيد لم أصبح طاهيًا في غمضة عين وسبقت المرة المتميزة الأولى عشرات التجارب الفردية التي تكلل بعضها بالنجاح وبعضها الآخر اضطررت لأكله تشجيعًا لنفسي فقط.
بدأت حكايتي عندما سافرت لمدينة قبرص التركية للدراسة، وهناك حصلت على بكالوريوس تسويق من إحدى أفضل الجامعات، بينما قدمت لي الغربة هدية "التجربة" التي لم أجدها في غزة، فكانت الطهي واحدة من هواياتي التي أصقلتها في تركيا من خلال الرحلات القصيرة مع أصدقائي في الإجازات.
جمعتني الغربة بأصدقاء من القدس والخليل ونابلس ورام الله، وكان أجمل ما فيها أنّها وحّدت الرفاق من المدن الفلسطينية المختلفة رغم الحدود والتقسيمات التي تحول بينهم في فلسطين، وبالفعل لطالما اجتمعنا على سفرة طعام واحدة، وتشاركنا إعداد الطعام في الطبيعة، ومن هنا جاءت فكرة الطهي خارج أسوار المطبخ.
كما ساهم عَملي في أحدِ المطاعم القبرصية كنادل، ثم مساعد "شيف"، في تَعلُم الكثير من فنون الطبخ والتعامل في ضغطِ المطاعم من خلال تحضيرِ وجبات مُختلفة في آنٍ واحد؛ الأمر الذي ساعدني في العمل بعدها كطاهٍ لمدة 6 شهور نقلتُ خلالها جُزء من مأكولات المَطبخ الفلسطيني وثقافته في الطَهي للمكان الذي عملتُ فيه واكتسبتُ تجربة عملية مميزة قبل عودتي إلى غزة من جديد.
لقد كبرتُ في غزة على حُب الطبيعة فأنا من قرية خزاعة جنوب القطاع المعروفة بطبيعتها الخضراء، وكان ضوء الصباح وأشعةِ الشمس الفُضولية وصوت الطيور المُغردة أجمل ما نستيقظ عليه، فعند عودتي لغزة أغراني الأمر في تكرار تجربة الطهي في الأماكن المفتوحة أمام الكاميرا التي أنقل عبرها كل الأصوات الحيّة من حولي للمشاهد؛ ما يُعطيه شعورًا أنّه يقف بجواري ويُشاركني التجربة وقد لاقى الأمر استحسان المتابعين.
استمتع جدًا خلال تصويري للفيديوهات وأنا أنقل يداي بين الأطباقِ بخفةٍ كالساحر، ويساعدني المونتاج على إخراج الفيديوهات بلطفٍ وحيوية، تتحرك الأطباق وحدها وحبات الطماطم ومكونات الطبخ تتراقص بشكلٍ ظريف فيخرج محتوى يلفت انتباه الجمهور، هكذا أصبحت مواقع التواصل الاجتماعيّ نافذتي للتواصل مع العالم وفتح آفاق جديدة.
أعمل الآن كمنسق للمشاريع في أحدِ المؤسسات الشبابية؛ لكني أستغل كل فراغ بالتعرف على ثقافات الطعام لدى الشعوب عبر اليوتيوب، فالتنوع أكثر ما يُغريني في فنّ الطهي، وقد ساعدتني كثرة الاطلاع على تكوين بصمة خاصة بيّ، كوني لا ألتزم بوصفات معينة وأعتمد بشكلٍ أساسي على التجربة والابتكار الذي يُعطي مذاقًا مختلفًا، سأستمر بالاطلاع والتجربة إلى أن أحقق حلمي بافتتاح مطعمًا خاصًا بطابعٍ غير تقليدي وأكلات مُميزة.