من خلفِ الميكروفون تَتَحدث سارة النجار بصوتٍ إذاعي أخَّاذ خلال برنامِجها الذي تقوم على إعدادِه وتقديمه بكل تميز وإبداع، وربما لا يُدرك الكثير من المستمعين وهي تتحدث بهذه الطلاقة وتقرأ نصوصًا مُنمقة ومُدققة أنّها فتاةٌ كفيفة حققت حُلمها بدراسة الصحافة والإعلام والعمل فيها، رغم جُملة من التحدّيات والظروف في مجتمعٍ لا يَعيّ إلا النَزر القليل عن حقوق ذويّ الإعاقة وطرقِ معاملتهم المُثلى.
تُعاني سارة (26 عاماً) منذ الطفولة، من شبه انعدامٍ تام للرؤية في النهار حيثُ يتقلص بصرها مع سطوع الشمس في حين أنّها ترى بطريقةٍ أفضل في المساء. وتجدُر الإشارة إلى أن الأطباء لم يتوصلوا إلى أيّ علاج مناسب فيما ما زال والدها يواصل بحثه إلى اليوم.
وحظيَّت سارة بدعمٍ أسريّ بالغ أهلّها لتتميز في كافة مراحل حياتها، تقول في حديثٍ لـ آخر قصة: "علّمتني عائلتي منذ الصغر الاعتماد على نفسي، ولم تُفرّق أبدًا بيني وبين أخوتي في المعاملة، وكانوا خيرَ مُعين لي في دراستي". ذلك الاهتمام العائلي والاجتهاد منها الذي كانت ثمرته حصولها على معدل 96% في الثانوية العامة.
بعد نيلها درجة البكالوريوس في الصحافة والإعلام من الجامعة الإسلامية، اتجهت للعمل الإذاعي، تقول: "اخترت الإذاعة لأنها الأكثر شعبية ونستطيع من خلالها الوصول للمناطق المهمشة بسهولة، وللكثير من الناس والفئات التي لا تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي".
وعملت على تقديم برنامج يخص ذوي الإعاقة عبر إذاعة فرسان الإرادة (إذاعة خاصة بذوي الإعاقة)، وعقّبت على أدائها في ذلك اليوم، "كان من المفترض أن تكون هذه الحلقة هي اختبار صغير من أجل القبول في الإذاعة؛ لكني شعرت أثناء تقديمها وكأنّي أعمل منذ زمن في المجال رغم ازدحام المشاعر بالقلق والتوتر".
انتقلت بعد ذلك للعمل في إذاعة شمس الالكترونية وهي أول إذاعة للمكفوفين في قطاع غزة، وتستهدف فئتي ذوي الإعاقة والأصحاء على حدٍ سواء، فيما تعمل فيها سارة كمعدّة برامج ومنسقة للكثير من البرامج الأخرى. وعن طريقتها في الإعداد، تشير: "أقوم بالتحضير المسبق ومن ثم أعمل على تكبير الكلمات بقدر عالي جدًا وهكذا عبر الهاتف أيضًا".
بجانب ذلك تعمل النجار على تقديم برنامج "حلّق عاليًا" المختص بذوي الإعاقة، على إذاعةِ الشعب، وقد حظيّ باهتمام الكثير من المتابعين. فيما هي تؤمن أنّ "لا شيء مستحيل وطالما لدينا الرغبة الكافية والشغف وحب العمل ستبصر أحلامنا النور".
لا تكتفي بعملها الإذاعي وحده، فهي تجتهد لإبراز حق ذوي الإعاقة في الانخراط بالحياة العملية داخل المجتمع وتحقيق أحلامهم بشكلٍ طبيعي، وخلف ذلك حادثة ترويها، "عندما التحقت بالجامعة واجهتني مشكلة الاندماج في المجتمع بقوة، وكنت أجد معظم الفتيات الكفيفات يجلسن وحدهن داخل الحرم الجامعي".
تضيف: "أيضًا كانت المواصلات واحدة من المشاكل التي أصابتني بالاكتئاب وأفقدتني الشغف في الدراسة، فالكثير من السائقين لا يتعاملوا باحترام ولطف معنا، وينعتوننا بالعُمي، إضافة إلى أن الشوارع غير مواءمة والكثير من التعقيدات".
ولاحظت سارة أنَّ العديد من ذوي الإعاقة ليس لديهن الوعي الكافي بحقوقهم الكاملة على الرغم من نسبة مُصابي الإعاقة البصرية تُشكِّل 29% من مجموعة الإعاقات في قطاعِ غزة بواقع 13655 شخصًا، وذلك وَفق دراسة أعدها الباحث مصطفى عابد عام 2019.
وانطلاقًا من هنا، بدأت النجار بعمل ورشات عمل حول ذلك، كما شاركت في حملات مناصرة وسعيت في كل مكان من أجل توعية المجتمع بحقوقهم، فكانت أول مشاركة في ندوة صغيرة لطلاب الجامعة تحدثت فيها عن تجربتها مع الإعاقة والتحديات التي واجهتها في التعليم.
كما تستخدم حسابها عبر "انستغرام" لذاتِ الغرض فتنشر عبره محتوى ثريّ حول التنمية البشرية، في محاولةٍ منها لتوعية المجتمع حول التعامل الإيجابي والفعّال مع فئة ذوي الإعاقة، وقد طرحت العديد من المواضيع في فيديوهات مصورة منها الاتصال والتواصل مع ذوي الإعاقة، واستبدال العادات السيئة بالإيجابية، وغيرها.
إزاء ذلك، أكّد المحامي محمد أبو هاشم من مركز فلسطين لحقوق الإنسان، على أنَّ حق ذوي الإعاقة في ممارسة الحياة بشكلٍ طبيعيّ هو واحد من الحقوق التي نصَّ عليها القانون الفلسطيني رقم (4) لسنة 1999م في المادة (2)، "للمعوق حق التمتع بالحياة الحرة والعيش بالكريم والخدمات المختلفة شأنه شأن غيره من المواطنين له نفس الحقوق وعليه الواجبات في حدود ما تسمح به قدراته وإمكاناته ولا يجوز أن تكون الإعاقة سببًا يحول دون التمكن المعوق من الحصول على تلك الحقوق".
وأشار أبو هاشم، إلى أنّنا نفتقد تطبيق هذا القانون على أرض الواقع بشكلٍ حقيقي، مبينًا أن هناك الكثير من الأماكن غير المواءمة لذوي الإعاقة، كما أنّ المجتمع لا يُساهم في دمجهم بشكلٍ كافٍ من ناحية عملية وعلمية.
إنَّ الإعاقة لم تكن يومًا حائلًا بين المرء وأحلامه، فقد صنع العديد من ذوي الإعاقة من إعاقتهم حياة ولم ينظروا إليها كعجز إنّما حافز للنجاح، وكما يقول الأمريكي ستيفي ووندر "لا يعني أن المرء فقدَ عيناه، أنه لا يستطيع الرؤية"، فهذه سارة كفيفة أصبحت مذيعة كما حلمت، فيما تأمل أن تساهم كلماتها وبرامجها في تغير المجتمع للأفضل ما استطاعت.