في صباح يوم عادي داعبت خديجة سعد (45 عامًا) رأس طفلها ذو العامين ونصف محاولةً إيقاظه واستقبال أولى كلماته التي تحب سماعها "ماما"، نادته "عبود" فلم يستجب، استمرت في مشاكسته، لكنها لاحظت أن أطرافه مرتخية وبالكاد يستطيع فتح عيناه، حثّته على الحركة، لكن دون جدوى، وعلى وقع صراخها هرع الزوج وحمل طفله، ليركضا به إلى المستشفى، ومنذ 12 عامًا لم يتوقفا عن هذا الركض.
تحول الطفل المشاكس إلى "مشلول" كما عبرّت سعد، خلال ساعات ضَعُف تنفسه ثم غاب عن الوعي كليًا، وعلى إثرها "رقد عبود في المستشفى 28 يومًا، وكانت نتائج فحوصاته سليمة، استعاد تنفسه وبصره فقط، ولم يتمكن الأطباء من تفسير ما حصل معه"، وأكثر ما أثار استغرابهم، أنه ابتلع الكلمات التي تعلم نطقها.
بصعوبة تمكنت عائلة الطفل من المتابعة في إحدى مستشفيات نابلس، شمال الضفة الغربية، نظرًا لعدم توفر الفحوصات اللازمة في قطاع غزة حيّنها، وخلال فحص "العناصر الثقيلة" تبين وجود مشكلة في عنصري الأمونيا واللاكتيك، وهذان العنصران يشيران إلى وجود اضطراب التوحد.
يُمثل التوحد أو ما يُسمى باضطرابات طيف التوحد، حسب تعريف منظمة الصحة العالمية، مجموعة من الاعتلالات المتنوعة المرتبطة بنمو الدماغ، وتتصف ببعض الصعوبات في التفاعل الاجتماعي والتواصل، ويُمكن تحسين نمو المصابين من خلال حصولهم على مجموعة من التدخلات في مرحلة الطفولة المُبكرة.
بعد جهدٍ حصل الطفل على فرصة في إحدى المراكز التأهيلية بالقدس، وقد استعاد قدرته على المشي، كما تحسن الفهم والإدراك لديه، وعاد والأهل مجددًا إلى غزة لكنهم صُدموا بواقع مراكز التربية والتأهيل فيها، حيث انعدام العلاج الوظيفي، وعلى صعيد العلاج الطبيعي فإن أهل المريض يتحملون تكلفته كاملاً، وفق خديجة.
وبحسب تجارب الأهالي في غزة، هناك مدارس قد تتناسب تكلفتها مع دخل الأسرة، لكنها لا تُلبي احتياجهم، وفق إفادتهم، "لكل مدرسة برنامجًا مختلفًا وفي كل فصل 4 أطفال يخضعون لنفس البرنامج، لكن هذه الإعاقة تحديدًا تتطلب تدخلاً فرديًا"، في حين هناك مدارس تقدم خططًا فردية لكن تكلفتها عالية، وهذا ما يشكو منه الأهالي رغم إقرارهم بحصول أبنائهم على الفائدة، كما حدث مع عائلة سعد.
أما اسراء البحيصي فقد بدأت رحلتها عند ملاحظتها وجود خللٍ ما عند طفلها أنس في سن 4 شهور، تقول: "كان يواجه صعوبة خلال الرضاعة، ولا يزيد وزنه"، وقد تم تشخيصه من قبل الطبيب على أنه يُعاني ضمور دماغي، كما أوصي بتناول أدوية معينة لكنها لم تُحقق الاستفادة، بحسب البحيصي.
حصل الطفل على تشخيص آخر من إحدى المؤسسات في غزة، يفيد بأنه مصاب توحد، تقول والدته بانفعال: "أكد لي المسؤول عن المؤسسة إمكانية العمل على إعادة تأهيل طفلي ليكون جاهزًا لدمجه في المجتمع"، تتابع: "تمسكتُ بهذا الأمل لأنني أم وأريد أن يتحسن طفلي، وقد كنا ندفع شهريًا للمؤسسة مبلغ من 700-1400 شيقلا".
وأردفت: "بحسب برنامج المؤسسة فإن كل طفل يخضع لبرنامج تأهيلي خاص به، لكن طفلي لم يكن يُحرز أي تقدم، وفي إحدى المرات ذهبت لزيارته ووجدته وحيدًا داخل الفصل"، عُرِض الطفل بعدها على عدة أخصائيين ومراكز لينفوا بدورهم أن يكون طفل توحد.
قال محمود الصوير رئيس اللجنة التأسيسية لأهالي أطفال التوحد في غزة: "يوجد لدينا 1000 طفل تم تشخيص حالتهم على أنّهم مصابي توحد، لكنَّ العدد أكبر بكثير"، وأضاف: "نحن نفتقر للمتخصصين والكوادر المؤهلة للتعامل مع هذه الفئة، كما أن البرامج المعمول بها بدائية". وطالب وزارتي الصحة والتنمية الاجتماعية بالاعتراف بأطفال التوحد وإدراجهم ضمن ذوي الإعاقة؛ ليحصلوا على حقهم في المساعدة المادية والتشخيص الطبي الدقيق.
فيما يتعلق بحقوق ذوي الإعاقة، تنص المادة (5) من قانون رقم (4) لسنة 1999م على أن الدولة مُكلفة بتقديم التأهيل بأشكاله المختلفة للمعوق، وفق ما تقتضيه طبيعة إعاقته وبمساهمة منه لا تزيد على 25% من التكلفة. بينما لا يحصل أطفال التوحد في قطاع غزة على أي مساعدة من الجهات الحكومية المختصة، وتتراوح رسوم المراكز التأهيلية ما بين 200-800 شيقلاً، بالإضافة إلى المواصلات.
إن الاختلاف في تصنيف أطياف التوحد كإعاقة هي مسألة عالمية وليست على نطاق قطاع غزة فحسب، وفق مدير دائرة تأهيل الأشخاص ذوي الاعاقة بوزارة التنمية الاجتماعية غسان فلفل، الذي أفاد أن وزارته لا تملك برامج مخصصة لاستقبال حالات التوحد، وتفتقر للإمكانات والمتخصصين لمتابعتهم وتأهيلهم، لأن العمل معهم فردي ومُكلف، فيما تسعى لتشجيع المؤسسات على استقبال أطفال التوحد وتخفيض الرسوم.
وكانت الحكومة في غزة قد أعلنت أنها ستخصص مبلغ مالي مقداره نصف مليون دولار لدعم المراكز والمدارس الخاصة، ومع ذلك كانت المراكز الخاصة بأطفال التوحد مستثناة من هذا التخصيص، لكن فلفل وعدّ بأنّ يدعم باتجاه ضمّها إلى المراكز المستفيدة.
من جانبه، قال مدير دائرة التطوير في الصحة النفسية الدكتور هشام المدلل، إنّ المراكز التي تقدم خدمات التوحد "حاصلة على الترخيص من قبل وزارة التربية والتعليم، وكان من المفترض أن تحصل عليه من وزارة الصحة، فالتوحد مشكلة صحية".
كما وجّه رسالة من خلال آخر قصة إلى المراكز العاملة في هذا المجال: "يُمنع استقبال أي حالة والعمل معها دون أن تكون حاصلة على تشخيص طبي من قبل طبيب نفسي مختص"، وأشار المدلل إلى أن أطياف التوحد متعددة، وكثير من الحالات يتم معاملتها على أنها تعاني اضطراب التوحد، مع أنها في الحقيقة ليست كذلك.
وحول إمكانية توحيد البرامج والخطط التأهيلية التي تسير عليها المراكز، قال المدلل: "يصعب توحيدها بسبب اختلاف أطياف التوحد وتباين درجاته، وأعتقد أن العاملين في هذا المجال هم أخصائيين نفسيين، ليس لديهم التدريب الكافي في العلاج الوظيفي التأهيلي".