تسمع صوت الموج تلقائياً وتشم رائحة ملح البحر بمجرد أن تدخل متجر "طاولة الفن" المكان الذي اتسم بلونيه الأبيض والأزرق كرمز لشاطئ بحر غزة، وسط زحام المدينة وضجيج السيارات ولمعة عيون المارة الذين أرهقتهم أعمالهم خلال النهار، وهي تمر بالأبواب المقوسة التي هي سمة المكان.
تستقبلك السيدة منى الشوا بفستانها السندسي المطرز وابتسامتها المشرقة، وقد عرفت عن مشروعها بأنه مشروع الجميع لكل من يحب الفن ويقدر الإبداع ويسعى للتطور والتعلم.
"هذا مكان للمتعبين ممن أرادوا تفريغ طاقتهم بصناعة الإكسسوار والحلي اليدوية المميزة، مكان لتفجير الإبداع، حيث يوفر كل الأدوات اللازمة، وبإمكان أي فرد زيارته والجلوس فيه وصناعة أي نوع من الإكسسوارات يخطر في باله ويلقى دعماً من الجميع للخروج بقطعة تناسب ذائقته"، قالت الشوا.
بدأ الشغف لدى هذه السيدة، التي فاضت دواليب مسكنها بأغلفة الإكسسوارات والقطع المعدنية المميزة والحجارة الطبيعية اللامعة التي كانت تنتقيها في أوقات سفرها، منذ سنوات طويلة.
جمعت في أسفارها أصدافا طبيعية وحاولت توظيفها في ديكور منزلها، وفي هدايا صديقاتها التي تفضل غالباً أن تكون من صنع يديها.
تشير بيدها إلى أحد الأرفف التي رصت عليها عدداً من الاكسسوارات اليدوية المميزة المصنوعة من أحجار طبيعية وتقول: "دائماً كل ما يصنع باليد أكثر تميزاً فهو يأخذ من جهد الشخص وتعبه وسهره وتفكيره وساعات يومية، لذلك يكون ثمنه أغلى من الاكسسوار العادي".
تشير بيدها إلى إحدى القطع المميزة التي صنعت بألوان العلم الفلسطيني، وقالت إنها صنعت عبر آلة النول، وهي آلة تصنع وتباع في المتجر ذاته، وتعتبر واحدة من التقنيات المميزة لصناعة الإكسسوارات.
تزين "منى" يدها بإسورة وخاتم مصنوعين من الأسلاك النحاسية والحجارة الطبيعية باللون البني المحمر وتخبر "آخر قصة" أنها لطالما تزين بحلي من صنع يديها هي وابنتيها اللتان ساعدتاها خلال افتتاح هذا المكان.
وتابعت حديثها: "أحب أن أرتدي الاكسسوارات التي أصنعها بنفسي، وتناسب مع ذوقي بشكل عفوي وجميل في آن واحد، والآن بعد أن افتتحت هذا المتجر أشعر أني مسؤولة عن تسويق القطع من خلال ارتدائها في المناسبات والزيارات بما يتلاءم مع هيئتي".
وبدأت الشوا وهي خريجة من قسم الإدارة والأعمال قبل نحو ثلاثة عقود، بمشروعها عبر "الأونلاين" قبل عام من خلال تسويق المسابح المصنوعة يدوياً وذات التعليقات من الفضة الخالصة، وقد صيغت بأسماء أصحابها.
وبعد أن لاقت هذه المنتجات اقبالاً جيداً، فكرت السيدة طويلاً قبل أن تنتقل إلى أرض الوقع بافتتاح متجرها الخاص، بدعم من زوجها وأبنائها الثلاثة الذين انتقلوا للعمل والدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وجدت في هذا المكان ذو النمط المعماري المائل إلى الطراز المغربي، فرصة لاستثمار وقت فراغها.
وعن ذلك قالت: "أردت أن أصنع مكاناً لتبادل الخبرات الفنية وأستطيع من خلاله أن أتعلم المزيد وأُعلم الآخرين أيضاً فهي مسألة نقل خبرات". وتجتمع حول طاولة بيضاء ممتدة بطول ثلاثة أمتار يلتف حولها سيدات بأعمار مختلفة جئن لتعلم فن صناعة الإكسسوارات، وأمامهم آلاف الحبات من الخرز الزجاجي الملون والحبال المخصصة والقطع المعدنية في جو من الهدوء والموسيقى التي تضفي جواً خاصاً.
وتزين المكان بمعلقات المكرمية البيضاء (معلقات مصنوعة من الحبال) التي اختلفت أشكالها وطريقة نسجها، فمنها المعلق في السقف ويحوي أَصَائِص الزراعة، ومنها ما يزين الحائط بإضافة الأصداف الحجرية الطبيعية.
وتتعاون السيدة الشوا، مع المدربة الروسية "ساشا" في تنظيم الدورات التدريبية الخاصة بلتعلم فن صنع المكرميات، وهو أحد الفنون القديمة، ويطلق عليه فن "الدنتل" أو فن "العقدة"، ويتميز بالرقة والبساطة ويمنح المكان مظهراً جذاباً.
ولا بد من الإشارة أن فن "المكرمية" فن عربي أصيل بدأ عند النساجين العرب في القرن الثالث عشر، وبعدها أنتشر في أسبانيا وإيطاليا وكافة أنحاء أوروبا.
وحول افتتاحها لمشروع "طاولة فن"، تتحدث الشوا أن التردد كان حاضراً في بداية الأمر، على اعتبار أن الوضع الاقتصادي في قطاع غزة المحاصر منذ ما يزيد عن 15 عاماً، يزداد صعوبة مع الوقت.
غير أنها أشارت إلى أن مكان المتجر الذي هو جزء من منزلها، شجع على افتتاحه وبخاصة أنه لن يكلفها أعباء الإيجار السنوي. وقالت: "عندما بدأنا في الخطوات العملية فكرت كثيراً في أصحاب المشاريع الريادية المبتدئة في غزة وتعرفت على واقع كنت أجهله وفي الحقيقة فكرت في الشباب والشابات غير المقتدرين في ظل تكاليف تأسيس مكان فني مهما كان بسيطا، إضافة للتعقيدات الكبيرة التي واجهتنا خلال تجهيز أوراق المكان وعملية تسجيله في الوزارات المعنية وتمنيت لو كان الأمر أسهل ليخفف عن الشباب ويشجعهم للبدء بمشاريعهم".
واكتملت سعادة الشوا حينما بدأت تسافر قطعها في حقائب المسافرين خارج غزة، وتقلدوها على أعناقهم، وتطمح وتخطط الآن أن تغطي "طاولة فن"، كافة محافظات قطاع غزة، بما يوفر على المتدربات عناء الانتقال من جنوب القطاع مثلاً إلى مدينة غزة من أجل تعلم صناعة الاكسسوار.
وتتطلع إلى تحسن فرص شحن البضائع إلى الخارج من أجل أن تنافس الإكسسوارات المحلية في الأسواق العالمية.