عندما حصلت سمر (32 عاماً) على نتيجة الفحص الطبي وتبين أنها حامل بجنينها الأول، صرخت بصوت عال وقالت: "أخيرا سأصبح أم".
أعقب ذلك، مرحلة جديدة من البحث عبر الانترنت عن سبل العناية بالجنين، ولحظات المخاض، غير أن من قرأ ليس كمن خاض التجربة. فلقد انتهى المطاف بعد تسعة أشهر من الحمل بالدخول إلى قسم الولادة في إحدى المشافي الحكومية بقطاع غزة.
ساعات المخاض حرجة ومؤلمة، لكن ما زاد من حدتها هو سوء المعاملة التي تلقتها "سمر"، والتي قالت إنها استجدت الأطباء كثيرا للالتفات إلى معانتها ولكن دون جدوى.
وبعد ساعات ممتدة طيلة الليل، أخبرها الفريق الطبي أن عليها الانتظار لوقت أطول حتى يحين موعد الولادة، وتذكر أن القابلة قالت منفعلة: "بدك وقت.. وطي صوتك".
وتعرف المادة الأولى من الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، الصادر عن الجمعية العامة رقم 48/104 عنف المرأة على النحو التالي:
أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل، أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة.
لم يمضِ وقت طويل على طلب الطاقم الطبي المغلف بالصراخ، من "سمر" بالسكوت، حتى أصيبت بنزيف حاد، ولم يستطع الكاد الطبي السيطرة عليه، غير أن آلامها ازدادت حدة بفعل صراخ الأطباء المتكرر في وجهها: "ما تصرخي احنا مش عارفين نعملك اشي".
وفي أشد الظروف ضعفاً وخوفا فقدت "سمر" الوعي، الأمر الذي تطلب نقلها إلى مشفى آخر، مكثت فيه ساعات حتى استعادت وعيها، وقد أخبر الأطباء مرافقيها من الأسرة أنها "فاقت بأعجوبة".
الشابة الثلاثينية التي كان المفترض أن توزع وقتها بين التربية وزيارات الفحص الطبي الدوري للاطمئنان على صحة المولود وفق قواعد التطعيم الصحي، أضحت زائرة دائمة لقسم غسيل الكلى.
لقد تسببت تلك الحادثة بأمراض مستعصية لـ"سمر" وهي تعاني الآن من أمراض عصبية منعتها من ممارسة حياتها بشكل طبيعي، وليس انتهاءً بالمشاكل النفسية والخوف والقلق الدائمين الملازمين لها.
"سمر" ليست الضحية الوحيدة التي قابلتها "آخر قصّة"، حيث تشكو العديد من النساء من سوء المعاملة داخل أقسام الولادة في المشافي. ولا توجد أرقام دقيقة حول عدد النساء اللواتي تعرضن للعنف داخل الأروقة الزرقاء.
وينص قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004، في المادة (60) والمتعلقة بحقوق المريض في المؤسسة الصحية، على وجوب حصول المريض على الرعاية الفورية في الحالات الطارئة.
"مريم" سيدة أخرى، حرمت الإنجاب لتسع سنوات بسبب تجربتها الأولى القاسية في الولادة، حسبما قالت.
تروي مريم تجربتها قائلة: "في سن السابعة عشر ذهبت للمستشفى بجنين مكتمل هالك وأنا في أسوء حالاتي الجسدية والنفسة.. كنت وقتها طفلة وأحمل في أحشائي طفل ولم يلتفت أحد لشكواي وألمي وحالتي، وعاملني الأطباء كالحيوانات بصراخهم علي وعدم تقديرهم لحالتي، حتى بعدما أخبروني أني فقدت جنيني الأول".
فضلت السيدة ألا تخبر زوجها بالعنف الذي تعرضت له، واستقر الحزن في جوفها تسع سنوات، فيما لم تتمكن من التخلص من مشاعرها السلبية وخوفها الذي يلازمها طيلة الوقت.
وتقول مريم: "تمنيت وقتها أن أحدا منهم يطمئنني على صحتي، وأن يعاملني فريق التمريض كشقيقتهم.. كنت أناشدهم طيلة الوقت ولكن للأسف لم يساعدني أحد واستمروا بالصراخ علي".
وقد سجل قطاع غزة 13 ألفًا و841 مولوداً جديداً، خلال الرُبع الأول من العام الحالي، بينما سُجلت 1703 وفيات، بحسب ما أظهرت إحصائية صادرة عن الإدارة العامة للأحوال المدنية في وزارة الداخلية بقطاع غزة.
لو افترضنا بناء على الأرقام الآنفة أن 5% فقط من النساء تعرضن للعنف أثناء الولادة، فهذا يعني أن 650 سيدة تعرضت للعنف خلال ثلاثة أشهر فقط من العام، مما يعني أن 2600 سيدة يتعرضن للعنف بشكل سنوي.
كلما بحثنا أكثر انكشف الستار عن العديد من الحالات اللاتي تعرضن لعنف الولادة سواء الجسدي أو اللفظي أو الجنسي حتى وإن لم يظهر للمجتمع والأطباء بشكل واضح وتخبئه النساء في قلوبهن ونفسياتهن المتعبة والتي تلازمهن فترات طويلة، وكان لابد من الحديث مع الأخصائية النفسية زاهية القرا والتي أكدت على حساسية حالة الأم أثناء مرحلة المخاض "فهي تكون في أضعف حالاتها وحاجتها للدعم تتضاعف".
وقالت "تحضر السيدات لأكشاك الولادة مسكونات بالخوف من أن تفقدن أرواحهن أو أجنتهن، ويكون عقلها متوتر ويفكر في كل شيء سلبي ومؤلم وتحتاج للاحتضان والهدوء والكلمة الطيبة والأسلوب الملائم للتعامل معها".
واعتبرت القرا أن معظم مستشفيات الولادة تفتقر للأجواء المريحة والتفهم العام لظروف الحالة، وهذه كله ينعكس سلباً على النساء، حيث تفتقد ثقتها بنفسها لشعورها بعدم القدرة على حماية نفسها وجنينها إضافة لأعراض أخرى مثل اكتئاب ما بعد الولادة والقلق الملازم وقلة النوم والصداع والكثير من الأفكار السلبية تجاه المولود.
ضحايا العنف اللواتي قابلناهن، وأخريات كثر، امتنعن عن تقديم الشكاوى رغم حجم الأذى الذي يسكن أنفسهن. علماً أن قانون الصحة العامة، يبيح في المادتين (60- 61) تقديم الشكاوى ضد المؤسسة الصحية أو أحد العاملين فيها، ويطالب المؤسسة الصحية بالاهتمام بالشكاوى المقدمة إليها واتخاذ الإجراءات المناسبة بشأنها.
وترجع محامية العيادة القانونية بمركز شؤون المرأة، سهير البابا، السبب في امتناع النساء عن تقديم الشكاوى، إلى ارتباط المجتمع الغزي بالعادات والتقاليد وسيادة الثقافة الذكورية والتي تمنع الكثير من السيدات من البوح بما يواجهن خلال عملية الولادة التي تعتبر من الموضوعات "الحساسة" حسب وصفها.
وأكدت الباب، أن قانون العقوبات لعام 1936 ينص معاقبة كل من يقوم بالتعنيف سواء بالحبس أو الغرامة حسب جرمه، غير أنه لا يوجد أي قانون يتحدث بشكل صريح عن "عنف الولادة"، ولكن يشمله قانون العقوبات.
وأشارت المحامية البابا، إلى أن النساء في اكشاك الولادة يكن وحيدات سوى من الطاقم الطبي، وهذا يمنع وجود شهود على ما يحدث لهن، ولكن هذا السبب غير كاف لامتناعهن عن تقديم شكوى للجهات المختصة.
وقالت "بكل سهولة بإمكان أي سيدة أن تثبت من خلال تقرير طبي الضرر الذي تعرضت له أثناء الولادة، ومن ثم تقديمه مرفقاً مع الشكوى للنيابة العامة التي تتخذ بدورها الاجراءات اللازمة بشكل رسمي، ومن الممكن أن تطالب الأم المتعرضة للعنف بتعويض مقابل ما تعرضت له".
وأضافت "خطوة واحدة تقرب المرأة من حقها وحق كثيرات ممن يتعرضن للعنف، لكن هذه الخطوة بحاجة إلى الجرأة واتخاذ قرار بعدم السكوت عن تعنيفها بلا أي سبب يذكر"، مبينةً أن وسائل الاثبات قد تكون صعبة في بعض الأحيان، ولكن لو أخذت امرأة واحدة على الأقل خطوة باتجاه تقديم شكوى، قد يكون لذلك أثر كبير تجاه منع هذه الظاهرة.
ورغم أن النساء اللواتي قابلناهن أقررن بوجود عنف الولادة، إلا أن نساء أخريات من الطاقم الطبي يعملن داخل "أكشاك" الولادة، ينفين وقوعه.
وقالت الممرضة ( م.ف) وهي حديثة عهد في هذه المهنة: "ليس هناك أي شكل من أشكال العنف، بالعكس النساء يحظين بتعامل جيد من قبل الأطباء والطبيبات".
في الغضون قالت (ج.ع) وهي ذات خبرة في مجال الولادة لمدة تزيد عن 15 عاماً، "إن النساء يتعرضن في مرات كثيرة للعنف والصراخ من قبل الطبيب في حال أزعجه صوت صراخهن خلال عملية الولادة".
حملت "آخر قصة"، القضية مثار البحث، إلى طاولة وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، وبعد محاولات عدة للحصول على إجابات حول الأسئلة المقدمة، أفادت الوزارة عبر الايميل، بعدم وصول أي شكوى بهذا الخصوص إليها، مؤكدةً أنه في حالة وصول أي منها سيتم التعامل معها بشكل جدي وفق القوانين والأنظمة ومتابعتها وفق جهات الاختصاص وإيقاع العقوبات تجاه المخالفين.
وما لم تقدم أي من الأمهات اللواتي تعرضن للعنف داخل أروقة المشافي شكوى رسمية بحق معنفيها، سيظل صوتهن مكتوماً داخل الأروقة الزرقاء، خلف ستار العيب والحياء والخوف.