انتهى العدوان وتلاشى صوت القذائف والدخان المتصاعد من البنايات المدمرة. الجميع تفحص قوائم الشهداء والجرحى، وتناقلت وسائل الإعلام قصصهم. فيما لم يلتفت أحد إلى قوائم الأحياء الذين تضرروا نفسياً وحط العدوان بثقله على رؤوسهم وأرواحهم على حدٍ سواء.
وفي الوقت الذي بدأت فيه طواقم الإغاثة بحصر الأضرار توطئة لإعادة إعمار، لم يجد المصابون بالأذى النفسي فرصة لإعادة بناء قواهم التي خرت من هول القصف والدمار والدماء، ولايزالوا يحاولون التعايش مع هذا الواقع رغم قسوة المشهد، لاسيما فئة النساء.
وتظهر الصدمة النفسية على النساء بعد الحروب من خلال بعض الأعراض كالتفكير الزائد بالحدث حتى بعد انتهائه وكأنه حي، إضافة للحزن والبكاء والكوابيس المزعجة، وكذلك تصاب السيدات بتوتر دائم وربما تغير في القابلية على الطعام ما بين عزوف أو شراهة ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل تتطور لتظهر على هيئة أعراض جسدية كالصداع والإسهال والتعب الدائم، وفق التشخيص الطبي.
حالة من الفزع الشديد وشعور ملازم بالموت أصاب الشابة ريم خلدون (21 عاماً)، والتي تسكن شمال قطاع غزة، عندما أصاب قصف إسرائيلي المنزل المقابل لمسكنها بشكل مفاجئ، وهو أمر أعادها إلى الحالة النفسية السيئة التي عانت منها منذ حرب 2012 ولم تشف منها بشكل كامل.
وتتذكر الشابة ما حدث معها قائلةً: "حسيت أنه حموت الآن وكل دقيقة أمسك بأمي وأخبرها أني أشم رائحة الموت، وبعدها بقعد فترات طويلة بالبيت بخاف أطلع من غرفتي".
ولا تنته حالة الرعب التي تعيشها ريم بانتهاء الحرب بل تمتد معها في كل مرة تسمع فيها طرقات باب منزلهم أو صوت الراديو والسيارة المسرعة ورنة الهاتف وزامور الإسعاف وتعود لشعور الموت الذي يحاصرها، وبدعم من عائلتها تحاول ريم الخروج من الحالة وخاصة أنها أخذت من حياتها وطموحاتها وأحلامها حسب تعبير.
فيما توضح الثلاثينية "هديل" وهي أم لثلاثة أطفال، أن الأمومة تعني بالنسبة لها القدرة على توفير الأمان والاستقرار وأجواء دافئة لأطفالها واحتوائهم في كل ظروفهم النفسية، غير أن العدوان على غزة قد عقد المسألة "فأنا لا أستطيع الشعور بالأمن، وبالتالي كيف سأوفره لأطفالي؟"، قالت متسائلة.
وتحاول "هديل" التخلص من الشعور الدائم بالذنب، بالاستعانة بدعم صديقاتها المختصات في الجانب النفسي واللاتي يقدمن لها المساعدة في التعامل مع أطفالها، ودعمها من أجل الحفاظ على الاستقرار النفسي.
ويحاول النساء بوجه خاص التعايش مع هذا الواقع، وفق ما أكده الدكتور إسماعيل أبو ركاب أخصائي الصحة النفسية، مشيرا إلى أنهم لا يملكون أيا من الأرقام والنسب للأشخاص المتضررين نفسياً جراء الحروب حيث أن الوصول إلى إحصاءات حقيقية يحتاج إلى مدة تزيد عن الشهر بعد عملية مسح شاملة وطويلة.
ويشير أبو ركاب أن النساء والأطفال هما الفئتان الأكثر تأثراً بالمحيط ويطلق عليهما الفئات "الهشة" ويزيد الأثر عليها في غزة خاصة أوقات الأزمات والحروب.
وكجميع شرائح المجتمع الغزي تتعرض النساء جراء الأحداث المتكررة التي تمر بها غزة إلى صدمات نفسية، وفق ما قاله أبو ركاب، والذي عرف الصدمة على أنها حدث مفاجئ يفوق طاقة الإنسان، وهذا ما يحدث مع النساء اللواتي يتعرضن لصدمات مباشرة يكون سببها قصف مباشر أو إصابة مباشرة أو فقدان عزيز خلال الحرب وقد تكون الصدمة غير مباشرة جراء سماع الأخبار ومتابعة قصص الفقد والضحايا والتأثر بأصوات القصف المخيفة.
وقال أبو ركاب الذي يعمل رئيسا لقسم الاخصائيين النفسيين والاجتماعيين بوزارة الصحة في قطاع غزة: "إن طبيعة المرأة وحساسيتها المفرطة يزيد من تأثرها، فتجد أنها سريعة الخوف والبكاء وتتأثر من أي حدث سواء يخصها أو لا يخصها فكيف إن كانت مآسي من هذا النوع تؤثر على الجميع؟".
وأكد على أهمية أن تتوجه السيدات اللواتي يشعرن بأي من أعراض الصدمة إلى العيادات الحكومية الستة المخصصة للعلاج النفسي والمنتشرة في مختلف محافظات القطاع، مبيناً أن وزارته فعلت الخط المجاني (103) لاستقبال الاستشارات النفسية من المتضررين.
وأوضح أبو ركاب أن المختصين على استعداد كامل للتعامل مع جميع الحالات التي تصل إليهم بكفاءة عالية وسرية تامة، حيث أنهم جميعاً تم تدريبهم للتعامل مع صدمات ما بعد الحروب.
وبين أن غزة تحتل المرتبة الأولى في التدخلات النفسية، فهي من أكثر المناطق التي استفادت من الخبرات الخارجية على مدار السنوات السابقة وقد ساعد في هذا الأمر التطور الواضح في ثقافة سكان القطاع تجاه التدخل الطبي في العلاج النفسي.
ومن جانبها ذكرت منى موسى مديرة حالة في مؤسسة عائشة لحماية المرأة والطفل، أن من خلال زيارات الأخصائيين للجريحات في مستشفيات القطاع والنقاش معهن لمسو عدد كبير من الصدمات النفسية العميقة.
وبينت موسى أن من أهم الأعراض التي ظهرت على النساء الجريحات، هي الخوف المستمر والنظرة السوداوية للحياة وقلق النوم، والتفكير بالموت بلا أي مبالاة للحياة.
وقالت: "تزداد الضغوطات النفسية على المرأة في الحروب لأن طبيعة المجتمع يحملها معظم المسؤولية في المنزل وتربية الأطفال، وفي ظل شعورها بعدم الأمان يصبح الضغط أكبر، ويزيد الأمر سوءًا".
وأدى العدوان المتكرر على قطاع غزة منذ 13 عاماً، إلى سقوط 686 امرأة، فيما بلغ عدد الأطفال الشهداء 1085، بينما يزيد عدد المساكن المدمرة كلياً عن 17 ألف وحدة سكنية.