رحلة عمال غزة: طريق الآلام لتحقيق الآمال    

رحلة عمال غزة: طريق الآلام لتحقيق الآمال    

أحكم قبضته على تصريح دخوله إلى إسرائيل وكأنه امتلك كنزًا، معتقدًا أنه سيتمكن من تسديد ديونه والإيفاء بوعوده التي قطعها لأبنائه فور تقدمه لطلب التصريح.

مجدي محمد (55 عامًا) المكنى بـ"أبو عبدالله"، أو "أبو البنات" كما كان يسميه البعض، حدادًا فلسطينيًا من قطاع غزة، كان يعمل داخل إسرائيل قبل أن تُغلق الباب في وجهه وعشرات الآلاف الآخرين من العمال، مطلع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000.

تراجعت ظروف الحداد محمد، حاله كبقية أُسر العمال، وبخاصة مع تراكم الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الحصار والعدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة، وما كان من الرجل إلا أن جرب مهن مختلفة قد لا تتناسب أحيانًا مع عمره أو خبرته طمعًا في توفير قوت أسرته، وقد انتهى به المطاف للعمل كسائق أجرة لبضع سنوات.

"كان صعبًا أن أُتم وإخوتي دراستنا الجامعية في تلك الظروف، لأن دخل والدي بالكاد كان يكفي لإطعامنا، وإنفاقه المستمر على أعطال سيارته القديمة" قالت ابنته البكر إسلام (32 عامًا)، والتي عملت في رياض الأطفال كي تشارك في إعالة أسرتها واستكمال تعليمها، كما عملت شقيقاتها أيضًا في حضانة للأطفال.

تشير إسلام، إلى أن والدها قد استنفذ كل السبل في الحصول على عمل يُمكّنه من تغطية احتياجات أسرته، وانتهى به المطاف بالتقدم بطلب الحصول على تصريح للعمل داخل "إسرائيل" وبالفعل تحقق الأمر، وقد كان يسعى لتحقيق هدفين على الأقل: توسيع بيته الصغير، وتزويج ابنه الوحيد كما تمنى.

توضح إسلام والحزن جليًا في عينيها "كان أبي مضطرًا للمبيت في أماكن عامة رغم برودة ديسمبر الماضي، ليوفر مواصلات عودته إلى غزة، وسعى بشكل حثيث للحصول على عمل يناسبه هناك.

قُبيل ليلة رأس السنة الماضية؛ اتصل بابنته وقد تهلل صوته "خبري إمك يابا إني لقيت شغل، أنا مبسوط واستأجرت غرفة رح أستقر فيها"، تبتسم إسلام كأنها تسمعه يهاتفها للتو "كان صوته مختلفًا، منذ وقت طويل لم يفرح بابا بهذا القدر".

بعدها بسويعات فُقد الاتصال معه "لم يحتمل قلبه المتعب تلك الفرحة، فقد توقف، توقف ومات" تقول الفتاة.

وكانت الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس التي تدير قطاع غزة، توصلتا عبر وساطات دولية إلى إتفاق في أكتوبر/ تشرين الأول عقب عدوان 2021 على غزة، أخذت فيه إسرائيل قرارًا بإدخال عشرة آلاف عامل، إلا أن حماس تطلب مضاعفة هذا العدد إلى 30 ألفًا.

بصعوبة تمكنت آخر قصة من التواصل مع عوني سليم (اسم مستعار) أحد العمال الذي ظفر بتصريح قبل أشهر قليلة، للحديث عن مشقة التجربة.

رفض سليم (58 عامًا) الحديث في بادئ الأمر لدواعي الحرمان من التصريح، ولكنه وافق على مضد قائلاً: "تبدأ رحلة استعدادنا للخروج إلى العمل منذ الساعة 10 مساءً، نبيت ليلتنا في القسم الخارجي لحاجز بيت حانون - إيرز، المكان مفتوح لم يكن يحمينا من برد الشتاء".

يضطر سليم الذي يعيل أسرة مكونة من 7 أفراد، وغيره المئات من العمال، الخروج متجهين إلى الحاجز -الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام -1948 باكرًا لحجز دورهم.

العامل سليم الذي حصل بصعوبة على عمل في ورشة ميكانيكية للسيارات، استغل وجود غرفة صغيرة داخل الورشة للمبيت، بعد الحصول على إذن السماح من صاحبة الورشة.

خلال حديثه، وعلى الرغم من احتياطاته التي اتخذها في مقابلتنا، إلا أنه تحدث بصوتٍ منخفض، وكأنه خائفًا من استراق سمع أحدٍ ما، وقال "عند مرورنا للحاجز، يسحب الجنود بعض التصاريح بشكل عشوائي، وأخاف أن أتعرض لنفس الشيء".

لا يشتكي الرجل الذي يقرب فعليًا من سن التقاعد، من العمل كميكانيكي طوال اليوم، يحمل قطع غيار السيارات ويُجري لها صيانة داخل الورشة، دون راحة أو طعام يُقيته، سوى الأجبان التي توفرها صاحبة العمل.

ويتابع "الديون كسرت ظهري وبعد الخسائر التي تعرضت لها، لم أتوقع أنني سأجد مصدرًا للرزق"، ربما ذلك أكثر من يخيف سليم الذي رفض الحديث عن ظروف غرفة مبيته، معتبرًا نفسه محظوظًا مقارنة بمن يضطرون للعودة يوميًا إلى غزة.

وأشرس المخاوف التي تجتاح سليم وغيره من العمال، هي اقتراب انتهاء صلاحية تصاريحهم والتي لا تتعدى مدتها 6 أشهر، ذلك حسبما أفاد سامي العمصي رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال في قطاع غزة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاحتلال الإسرائيلي يغلق الحاجز في الإجازات الأسبوعية والأعياد اليهودية وكلما توترت الأوضاع الأمنية مع القطاع، الذي بلغ فيه معدل البطالة 50%، وفقاً لمركز الإحصاء الفلسطيني.

وترى مؤسسات حقوقية، في استغلال الاحتلال الإسرائيلي لسيطرته الكاملة على حاجز بيت حانون - إيرز، لمعاقبة سكان قطاع غزة الواقعين تحت الاحتلال والحصار، تنصلاً من مسؤولياته التي أقرها القانون الإنساني الدولي.

ومن الواضح أنه لم يعد يكترث العاطلون عن العمل، إلى مدى ملائمة المهن التي يمكن أن يعملون فيها إلى شهاداتهم أو تخصصاتهم، حيث أصبح توفير قوت اليوم يشكل الهم الأكبر بالنسبة لهم.

توفيق عبد الله -اسم مستعار- هو واحد من هؤلاء الأشخاص الذي حصل على تصريح بالعمل مؤخرًا داخل إسرائيل، ويعمل الآن في مهنة لا تتقاطع مطلقًا مع تخصصه الجامعي.

عبد الله (32 عامًا) مهندس مدني من سكان مدينة غزة، أقام برفقة صديق له شركة للمقاولات قبل أكثر من 8 سنوات، غير أنهما لم ينجحا في إبقاء الشركة صامدة لأكثر من 3 سنوات في ظل الحصار الذي يفرض قيودًا كبيرة على دخول مواد البناء إلى غزة.

حاول عبد الله البحث عن فرصة عمل خارج حدود قطاع غزة، تاركًا أسرته المكونة من 4 أفراد، ولجأ إلى تركيا للعمل في مجال التجارة، لكن حتى هذه الفرصة لم تدم طويلاً، فبعد انتشار جائحة كورونا اضطر لمغادرة اسطنبول عائدًا إلى غزة بخفي حنين.

حصل عبد الله على تصريح للعمل في إسرائيل، وقد أصبح عاملاً في مجال الدهان، "صحيح أن المسألة فيها الكثير من الأذى النفسي، بأن تكون مهندسًا وتعمل داخل الورش بلباس مهلهل، لكنني على الأقل وجدته مجديًا على الصعيد المادي".

من جهته قال، العمصي رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال: "يواجه عمالنا الفلسطينيين عنصرية المحتل ولا يحصلون على حقوقهم، يواجهون ظروف مبيت لا تصلح للآدميين، وتتعمد إسرائيل فعل ذلك مستغلة حاجتهم للعمل".

وأضاف العمصي "الاحتلال يتعمد التنصل من واجباته تجاه العمال، حيث أصدر لهم تصاريح تحت مسمى "تاجر أو احتياجات اقتصادية" وليس تصريح "عامل"، "فيصبح العامل وكأنه دخل الأراضي الفلسطينية متهربًا، بالتالي لا تجد إسرائيل نفسها مضطرة للالتزام بأي تعويض مالي لهؤلاء العمال في حال تعرضوا للأذى".

ولفت إلى وجود ما يزيد عن "16 مليار دولار عبارة عن أموال ومدخرات تعود للعمال الفلسطينيين، محتجزة منذ سنوات ولا تعترف إسرائيل بها" كما قال.

وعلى الرغم من المشقة التي يعانيها العمال بشكل يومي، إلا أن الدخل الذي يحققونه ينظر له أهل الاقتصاد، على أنه يشكل رافعة لتحسين الوضع الاقتصادي المتردي داخل القطاع المحاصر منذ أكثر من 15 عاماً، والذي بلغت نسبة الفقر فيه نحو 60 في المئة، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ‏في الأراضي الفلسطينية.

وقدر الخبير الاقتصادي ماهر الطباع، الدخل اليومي لعمال قطاع غزة داخل إسرائيل بقيمة (3 مليون شيكل) يوميًا، معتمدًا في تقديره على احتساب متوسط الدخل للعامل (300 شيكل) يوميًا، فيما يبلغ مجموع العمال (10 آلاف عامل).

غير أنه أشار إلى أن هذا المستوى من الدخل، لم يخلق انتعاشًا اقتصاديًا حقيقيًا في قطاع غزة، مفسراً ذلك، بأن "العامل أصبح أكثر حرصًا من الماضي، فهو لا يتوقع أن يستمر عمله بشكل دائم نظرًا للسياسة الإسرائيلية المتذبذبة، كما أنهم مُثقلون بالديون وعدد كبير منهم لديهم ذمم مالية مطالبون بتسديدها".

ورغم طريق الآلام الذي يسلكه عمال غزة يومياً، إلا أنهم يعتبرون أنفسهم محظوظين، نظرًا للعائد المالي الذي يُحصلونه داخل إسرائيل، مقارنة مع الظروف الاقتصادية المتردية التي عاشوها لسنوات طوال، ومع  ذلك فإن هذا الكسب يرافقه ممارسات من الانتهاك والإذلال.