هل يشيع الشهداء مرتين؟، وكم مرة يستطيع المكلومون إقامة سرادق عزاء؟، وهل يقبلون بالتصالح مع الحقيقة مع مرور الوقت؟.
أسئلة الفقد دائماً صعبة وجريئة، وهذا ما عاشته الفنانة زينب القولق (22 عاماً) التي فقدت 22 فرداً من أسرتها في العدوان الأخير على قطاع غزة مايو 2021، حين أعادت نبش ذاكرتها بافتتاحها معرضاً فنياً في مدينة غزة لتجسيد واقعة الفقد.
لم يبق لدى زينب سوى والدها وأخيها، اللذان يقفان إلى جانبها وهي تستقبل الحاضرين إلى المعرض الذي يكسو لوحاته الألم. اختصرت الفتاة على نفسها ومن تبقى من أسرتها، البوح بالمشاعر، لأن اللوحات كانت كفيلة بأن يصفها بعض الزوار بأنها جنائز صامتة .
تبدو زينب ثابتة أمام تلك اللوحة التي رسمت فيها 22 كفناَ أبيضاً بمختلف الأحجام، لم ترسم عبثاً فهي تعرف صاحب كل كفن فيهم، وكلما أنهت رسم واحد ودعته وطبعت عليه قبلة الوداع التي لم تسمح لها إصابتها في حينها أن تفعل قبل مواراة جثامين عائلتها الثرى، هكذا قالت في وصف الصورة واكتفت، فيما عقب والدها : "تمنينا لو نفتح قبورهم ونودعهم للمرة الأخيرة ولكن لم نستطع!".
"عمري 22 عامًا وفقدت 22 شخصًا" هو اسم المعرض الذي عرضت فيه زينب لوحاتها والذي ينظمه المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وهيئة الأمم المتحدة للمرأة في فلسطين.
تقتبس زينب، رائعة محمود درويش الخالدة: "هزمتك يا موت الفنون جميعها"، كنصٍ لتجسيد فكرة الجمع بين الفن والموت، بين الساعي إلى الخلود وبين بوابةِ الفناء.
لهذا لم تتوان الفتاة عن البحث الدائم عن سُبلٍ لتخليد اللحظة المقتنصة من الموت وهذا ما قاله والدها شكري القولق : "وجودنا في هذا المعرض هو تخليد لذكرى عائلتنا وشهدائنا الذين لم ننساهم للحظة ووعودنا الدائمة لهم بأننا سنطالب بحقوقهم مهما مر الوقت على رحيلهم فكل لوحة رسمتها زينب رسمتها بألمنا ودموعنا واحاديثنا ومشاعرنا التي نتشاركها معاً كل يوم".
زينب التي ارتدت ثوب التخرج من الجامعة، عند زيارتها لأضرحة عائلتها، جسدت هذه الواقعة في واحدة من لوحاتها التي رسمت فيها هيكلاً عظمياً يرتدي ثوب تخرج، وعبرت عنها قائلةً: " لم أتخيل يوماً أن تضيق علي الأرض وتبقى المقبرة هي المكان الوحيد الذي أستطيع فيه إخبار عائلتي بأني تخرجت أخيراً من الجامعة، فما أنا إلا ندوب لا تلتئم".
لم تستطع الفنانة الإفلات من ملاحقة وسائل الإعلام، أما شقيقها أسامة فاكتفى بالوقوف صامتاً مراقباً الحالة النفسية لشقيقته التي تردت خلال المعرض، ربما بسبب الأسئلة التي استدعت اجترار المشاهد المأساوية لحظة وقوع حادثة القصف الليلي.
وعلى ذكر الليل، يقول والد زينب: "ما أقسى الليل على الفاقدين.. تغيرنا كثيراً لم نعد نبتعد عن بعضنا البعض نتشارك كل المشاعر حتى ما نراه في منامنا ونعين بعضنا على ما مررنا به ونتصبر بآيات القرآن لأن الله وحده القادر على الطبطبة على قلوبنا وإلا لوصلنا لمرحلة أن فقدنا عقولنا من هول ما نشعر".
تختصر سيدة تقف على مدخل المعرض، شجن فقد الفنانة زينب لعائلتها، بسؤال: أين يهرب المتعبون يا الله من ذاكرة الفقد؟.