السادسة صباحًا، بيسان زغرة تجمع أغراضها الخاصة بالسباحة والتجديف وترافق والدها الصياد إلى شاطئ بحر غزة، حيث تتجهز بشكل كامل لتمارس السباحة والغوص.
تقف متأهبة أمام البحر، بعدما قررت السباحة من الشاطئ إلى العمق، رافضة الركوب بجوار والدها في المركب -كما العادة- تبدأ بالغوص مباشرة إلى المياه الراكدة بعدما قطع المركب بضعة أميال في عرض البحر.
زغرة "17 عامًا"، تخرج صباحًا للسباحة، ومساءً للجري، وهي ليست الوحيدة من أسرتها التي تأخذ الرياضة كأسلوب حياة. والدها الذي عرف البحر وتعامل معه منذ سنين طفولته لم يمارس الصيد فحسب، بل عمد إلى توجيه أولاده إلى أنشطة مختلفة، "في الحقيقة لم أكن وإخوتي من الأطفال الهادئين، لذلك تفضل أمي أن نرافق أبي إلى الصيد ونريّحها من حركتنا الزائدة" تقول بيسان في دردشة مع آخر قصة ونبرة الضحك تسيطر على صوتها.
اعتاد والد بيسان، والحاصل على شهادة منقذ بحري منذ 20 عامًا، على اصطحاب أطفاله يوميًا إلى البحر، هناك تطورت مهاراتهم المختلفة، مثل: السباحة، الركض، والغوض. وتقول "مارسنا السباحة والركض كهوايات من باب التفريغ، بعدها علمنا بوجود مسابقات ومدارس مختصة تهتم بهذه المجالات، من صديق والدي، الذي أخبرنا عن إقامة مسابقة سباحة للفتيات" تتحدث بيسان مُحاولةً التعبير بالكلمات عن أكبر قدر من المشاعر التي تعتريها.
"الفتاة التي أُدربها أشطر من بيسان" هذه كانت كلمات مدربها، عام 2017، حيث كانت في الـ 13 من عمرها والتي أثارت في نفسها إصرارًا أكبر على فوز المنافسة الصعبة، خاصة وأنّها مُعتادة على "ملوحة" مياه البحر، وهي أسهل في السباحة من مياه "البِرَك" الحُلوة، ليكون بمثابة التحدي الأول.
تنطلق صافرة البدء، تخترقُ زغرة برأسها مياه المسبح الراكدة لتصل إلى آخر المسبح غوصًا وتُعاود السباحة إلى أوله، بينما لازالت منافِسَتُها في منتصف الطريق، لتعلو أصوات أهلها والمشجعين، وتحصل الفتاة الصغيرة على الكأس بجدارة.
"حصولي على الكأس فتح أمامي آفاقًا جديدة، وحرك بداخلي شعورًا، أريد المزيد من البطولات، ولن أكتفي" تُضيفُ الفتاة الطَموحة، مقررة أن تلتحق بأي مسابقة تعمل على تقوية مهاراتها وإبراز إسمها.
يُعلن عن سباق الترايثلون على مستوى قطاع غزة لأول مرة عام 2019، وهو سباق ثلاثي يبدأ بالسباحة ثم ركوب الدراجات، وينتهي بالجري، فلا تتردد بيسان وعائلتها بالالتحاق، مقسمين الأدوار على بعضهم البعض، لتبدأ بيسان بالسباحة، ثم تسلِّم على أخيها "رزق" ليباشر بركوب الدراجة، وعندما يصل خط النهاية يتسلم والدهم المهمة أخيرًا فيركض المسافة المحددة لإنهاء الجولة.
"سباق العائلة" هكذا تطلق بيسان على هذه البطولة المشتركة التي حققها الثلاثة بالتعاون مع بعضهم البعض، ثم تضيفُ ضاحكةً: "يومها جمعنا كل ميداليات المسابقة بالتعاون والاتفاق بيننا، واستغلالنا الأمثل للوقت".
تستمر بيسان في التذكير أنها تنحدر من عائلة رياضّية بطبعها، فوالدها أصر أن يزرع في أطفاله هذا الحس، ليكون شقيقها الأصغر "رزق" منقذ على الساحل بحري، وشقيقتها أسيل بطلة فلسطين في الركض.
يقول والد بيسان: "لم أُعِر اهتمامًا لِما يقوله الناس، فأنا أعرف كيف ربيت بناتي على المبادئ والأخلاق السليمة، وهذا ما جعلني أضع ثقتي الكاملة بهنّ، وأشجعهنّ على خوض البطولات رغم اعتبار ذلك بالشيء الغريب على فتيات مجتمعنا"، يطغى على حديثه الفخر، مقتنعًا أنّ بيسان ستحصد جوائز عالمية مستقبلاً، ومحملاً نفسه مهمة إزالة الحواجز المجتمعية من أمامها.
لم تتوقف الطفلة الرياضية، عن حصاد الجوائز، كما استمرت بالتعلم حين قررت الالتحاق بدورات إعداد المدربين في مجالات السباحة، واللياقة البدنية؛ لتدخل عالم التدريب والإنقاذ في النوادي المحلية وفي الشاليهات الخاصّة، وتطوير قدراتها في هذا المجال.
شغفها، قادها لمتابعة أخبار المسابقات، حتى علمت عن بطولة محلية للتجديف بقوارب صيد الأسماك، خلال العام الماضي 2021، بتنظيم الاتحاد الفلسطيني للشراع والتجديف، حيث تزامن ذلك مع إغلاق الميناء بسبب فيروس كورونا. "لست صاحبة خبرة في التجديف، وتعلم هذه المهارة يحتاج إلى مياه راكدة، حينها تواصل والدي مع مدير الميناء وشرح له الوضع، سَمَح لنا بالدخول سويعات إلى الميناء والتدرب في مياهها" تشرح الفتاة عن إصرارها للالتحاق بالمسابقة، وقد قرر والدها تدريبها خلال وقت قصير قبل المسابقة.
كانت بيسان واحدة من أربع فتيات شاركن بالمسابقة، من بين 30 مشارك -بحسب ما صرح به الاتحاد الفلسطيني للشراع والتجديف-، مع بداية المسابقة، شعرت بالتوتر، بدأت بالتجديف مع العلم طولها لا يتجاوز نصف طول المجداف الذي تحركه لأعلى وأسفل، تارة إلى اليمين، وتارة أخرى إلى اليسار.
"كان التحدي صعبًا خاصة وأني أتنافسُ مع شبانٍ يمارسون التجديف منذ فترات طويلة، لكنّ التوتر أخذ بالتناقص تدريجيًا عندما اشتدّ وطيس المسابقة وأصبح هدفي فقط الوصول إلى النقطة المطلوبة بأسرع وقت ممكن" تقول البطلة.
يندهش الجمهور والحكام من وصول بيسان إلى خط النهاية، لتتوّج بالمركز الأول، وتحصد أختها "أسيل" المركز الثالث من نفس المسابقة، ليعلو سيطها، وتندهش حين يصلها اتصال أخير مفاده انعقاد بطولة للتجديف في الإمارات.. ليراود بيسان الطموح: "ولم لا؟!".
بعد التحضيرات والتجهيز، أصبحت الأمنيات حقيقة. وصلت بيسان إلى الإمارات وسط دهشة الحكام والمدربين من مشاركتها وصغر سنها، تحضرت للمشاركة في التدريبات، لتُفاجئ بأنّ القوارب الدولية مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتادت ركوبها في "غزة"، لكنها لم تستسلم.
"صحيحٌ أني لم أفز بالبطولة، لكنّ التنافس بجانب كبار المجدّفين العرب، وأنا أمثل دولتي فلسطين وأعلنها بين أسماء الدول المتنافسة، منحني شعورًا عاليًّا بالرضا" تتحدث الرياضيّة وقد هدأت نبرة صوتها والابتسامة تشق الطريق إلى وجهها.
عادت بيسان إلى غزة وفي جعبتها الكثير من الأحلام، حيث تستعد حاليًا للاختبارات النهائية للثانوية العامة، لتلتحق بعدها بمقاعد الجامعة، وتقول: "سألتحق بتخصص التربية البدنية في الجامعة، لأنّه يتناغم مع طموحي في فتح نادي خاص لتدريب الفتيات والشابّات، وزيادة التوعية المجتمعية بأهمية أنواع الرياضة المختلفة بالنسبة للنساء" تتحدثُ الحالمة وهي ترسم خطوات طموحها بدقّة لمقبل الأيام.