نساء تسوقهنّ الحرب قسرًا إلى سلطة الإخوة

نساء تسوقهنّ الحرب قسرًا إلى سلطة الإخوة

عند حافة خيمة لا تمنحها سوى مزيد من العراء وانعدام الأمان، تجلس يسرى محمد تحدّق في السماء الثقيلة، بينما يثقل الأرض من حولها صوت شقيقٍ يحدّد خطواتها ويقنن أنفاسها. الحرب دمّرت بيتها، لكن ما تلاها دمّر الجزء الأكثر هشاشة فيها: حقها في أن تعيش كإنسانة لا كمتهمة دائمًا.

كانت محمد (48 عامًا) تجلس على حجر صغير أمام باب الخيمة، تتبادل حديثًا صباحيًا هادئًا مع الجارات؛ لكن صوت شقيقها يعلو كعادته فوق كل لحظة، يناديها للدخول. تجرّ قدميها المثقلتين، تدخل الخيمة وتتهيأ لسماع جولة جديدة من التوبيخ وسلسلة من القرارات المفروضة التي لا رأي لها فيها.

قبل الحرب، انتقلت السيدة محمد للعيش في شقة والديها بعد طلاقها ووفاة أبويها. ورغم المضايقات والإهانات التي كانت تتعرض لها من أخيها عند خروجها - من تحديد أوقات الخروج والعودة إلى ضربها عند التأخير - فإنّها كانت تحظى بمساحة صغيرة لممارسة تفاصيل حياتها باستقلالية.

أما اليوم، فقد تبدّلت حياتها بالكامل؛ فالحرب التي جرّدتها من البيت والخصوصية، غرست في يومياتها أشكالًا إضافية من العنف: عنف لفظي واقتصادي وتحكّم ممتد في أدق تفاصيل حياتها بعد اضطرارها للنزوح مع أخيها والإقامة في خيمته.

تنظر إلى صورةٍ قديمة لها وتقول: "تغيرت كثيرًا في عامين. لم تؤلمني الحرب كما أوجعني ما أواجهه داخل الخيمة. إذا عبّرت عن انزعاجي أواجه بالشتائم. لا آكل براحة ولا أنام كما أريد. أشعر أنني تحت المجهر".

ثم تتحسس يديها وهي تروي كيف جذبها شقيقها بقوة حين تأخرت قليلًا في زيارة شقيقتها داخل المخيم: "يُشعرني دائمًا أنني مذنبة… هل ذنبي أنّني مطلقة؟ في كل مرة يُعايرني بطلاقي".

ثمة خراب ينمو في ظلال الحرب، لا يظهر في صور الركام ولا يُقاس بعدد البيوت المدمّرة، بل يتسلل إلى حيوات النساء اللواتي فقدن بيوتهن كما فقدن استقلاليتهن السكنية. آلاف منهن وجدن أنفسهن مجبرات على العيش في خيام وبيوت مشتركة، حيث يسيطر الأشقاء الذكور على الحركة والمال والقرار، فتتحول هذه المساحات الضيقة إلى مناطق مراقبة وقمع يومي، وتتلاشى الحياة المستقلة التي عرفنها قبل الحرب، ليجدن أنفسهن فجأة بلا مساحة تخصهن ولا قرار يعود إليهن.

سعاد خليل (39 عامًا) كانت تعيش مع والدتها قبل الحرب. لكن الأم رحلت سريعًا مع الأيام الأولى للنزاع، لتدخل سعاد بعدها في دوامة نفسية قاسية. تقول بصوتٍ تختلط فيه المرارة بالخذلان: "رأيت الجحيم والذل… يا ليتني متُّ معها".

وجدت نفسها بعد رحيل والدتها أمام سلطة أشقائها الثلاثة. تعمل معلمة وتتقاضى راتبًا معقولًا، لكن مصروفاتها تحت سيطرتهم. يطلبون أموالًا باستمرار، وإن رفضت تتعرض لمعاملة قاسية وإيذاء لفظي وجسدي.

تقول: "أريد أن أعيش بمفردي، لكن البيت مُدمر وما يفصلني عنهم سوى قطعة قماش. أعاني من انتهاك خصوصيتي واستغلالي ماليًا. وحتى عندما أوبّخ طفلًا من أبنائهم لعبثه بأغراضي، أتعرض للتعنيف من أشقائي وزوجاتهم".

واقع مشابه تواجهه فاطمة أحمد (56 عامًا)، التي تُقيم مع ابنتها في بيت أهلها منذ وفاة زوجها. شقيقها، الذي عاد من الغربة قبل الحرب بعامين، يفرض قيودًا على زياراتها ومصروفاتها، ويتعامل معها كمن لا يملك حقًا في القرار.

تقول بصوتٍ متحشرج: "لا أدري ماذا أفعل. أصمت كثيرًا، أشعر بالعجز، ليس هناك خيارات أمامي. ابنتي ترفض تحكماته، لكني أخاف أن يضربها، فأضطر لنهرها".

تمتلك أحمد راتبًا خاصًا، لكن شقيقها يسعى للتصرف به كما يريد. إن رفضت إعطاءه المال في شهرٍ ما، ترتفع حدّة شتائمه وتعنيفه لها، فتخضع لطلبه صامتة.

أما مها سعد (52 عامًا)، فيأتيها مبلغ شهري من شقيقها في الخارج يساعدها على مصاعب الحياة. كانت تعيش في الطابق السفلي المتبقي من بناية مكوّنة من أربعة طوابق، لكن بعد تدمير الطوابق العليا لجأ إخوتها الثلاثة للإقامة معها، معتبرين المكان "بيت والدهم وحقهم".

تقول بمرارة وهي تمسح وجهها: "فقدت خصوصيتي تمامًا. البيت ثلاث غرف فقط، ويريدون أخذ غرفتي بالقوة. يتعاملون وكأنّ لا حق لي بالسكن وحدي. حتى الطعام لا آكل ما أريد، ولا يحق لي حتى استلام المال الذي يرسله لي شقيقي".

هذه التحوّلات القسرية تتعارض بوضوح مع القانون الأساسي الفلسطيني الذي ينص في مادته التاسعة على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الجنس، ويؤكد في المادة (32) أن الحرية الشخصية حق طبيعي ومكفول لا يجوز المساس به. ورغم ذلك، تجد نساء كثيرات أنفسهن اليوم محرومات من أبسط حقوقهن في الاستقلال واتخاذ القرار.

المحامية ماجدة شحادة من وحدة المرأة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، تقول: "الحرب فرضت تحولًا اجتماعيًا جذريًا. كثير من النساء أجبرن على العيش داخل العائلة الممتدة، ما أفقدهن استقلالهن بالرأي والقرار، وقيَّد مشاركتهن في المجتمع".

وتوضح أنّ العديد من النساء لم يخترن أماكن نزوحهن، ولم يستطعن الحصول على خيمة خاصّة تضمن لهن الحدّ الأدنى من الخصوصية. وفي حالات كثيرة، استولى ذكور العائلة على موارد المساعدات الإغاثية، بما فيها تلك المخصصة للنساء المنفصلات أو الأرامل أو الكبيرات في السن.

وتتابع: "عملنا في المركز على تمكين النساء قانونيًا، خصوصًا المنفصلات، لإثبات أنهن بلا معيل، وبالتعاون مع مؤسسات عديدة استطعنا إصدار وثائق تثبت أن المرأة صاحبة الحق في المساعدات".

وبحسب توثيقات المركز، تعرضت النساء لأشكال متعددة من العنف، وحملن أعباء تفوق قدرتهن. فالسكن في مخيمات النزوح أو البيوت المشتركة خلق حالة احتكاك يومي زادت من التوترات والنزاعات، لتكون النساء الفئة الأكثر عرضة للاضطهاد.

وتضيف شحادة أنّ غياب إطار قانوني فعّال وغياب الأجهزة الرسمية فاقما الوضع، ودفع المؤسسات للتركيز على رفع وعي النساء بحقوقهن وتمكينهن من الوصول إلى الحماية والدعم.

على مستوى الصحة النفسية، تصف المختصة نورا أبو عيطة ما يحدث بأنه "صدمة اجتماعية ونفسية كاملة". تقول: "كثير من النساء كن يتمتعن قبل الحرب بقدر من الحرية والخصوصية، يقرّرن شؤونهن اليومية ولديهن استقلال بسيط. لكن الحرب قلبت كل شيء. برزت أنماط تحكم ذكوري في السكن والحركة والمال وحتى القرارات الشخصية".

وتعدد الأعراض، فقدان الشعور بالأمان، انخفاض تقدير الذات، النقد المستمر، الشعور بأنها عبء، التوتر الدائم، والاكتئاب والانسحاب الاجتماعي.

وعن آليات التخفيف، تقول: "إعادة الشعور بالسيطرة خطوة أساسية. حتى لو كانت المرأة مضطرة للعيش في مكان لا يشبهها، يمكنها استعادة جزء من السيطرة عبر تنظيم يومها واتخاذ قرارات صغيرة تخص وقتها أو أعمالها. مشاركة التجارب مع نساء يمررن بالمعاناة نفسها يخفف الإحساس بالعزلة".

في غزة، لا تنتهي الحرب عند خطوط القصف. فهي تمتد إلى داخل الخيام والبيوت المشتركة، حيث تُعاد صياغة حياة النساء قسرًا، ويتحوّل ما كان يومًا مساحة آمنة إلى مصدر إضافي للخوف والتقييد. على أكتافهن تتراكم طبقتان من الخراب؛ ركام الخارج الذي لا يزال شاخصًا في الذاكرة، وسلطة الداخل التي تضيّق عليهن يومًا بعد يوم. وبين هذه الطبقات، تمضي النساء بأحلام صغيرة وقلوب مرهقة، يحاولن ترميم ما يمكن ترميمه من حياةٍ كانت يومًا ملكًا لهن.