كيف تحوّلت الماء إلى سُمّ يقتل مرضى الكلى؟

كيف تحوّلت الماء إلى سُمّ يقتل مرضى الكلى؟

"كل يوم اختبار جديد للحياة"، تقول صفاء موسى (35 عامًا) وهي تجلس أمام آلة الغسيل الكلوي في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، إذ لا تُقاس حياتها اليوم بالساعات، بل بالانتظار. انتظار أن يُسمح لها بالدخول إلى غرفة الغسيل، وانتظار أن تتوافر المياه المقطّرة التي تحتاجها لتنجو. تتنفس ببطء كمن يخشى أن يُفلت الأمل من بين أنفاسه.

تتابع موسى بصوتٍ مُرهق يكادّ يضيع تحت ضجيج الأجهزة: "المياه المقطّرة التي أحتاجها اختفت من الأسواق، وأحيانًا أضطر لاستخدام أي ماء متاح، لكن جسدي يرفضه؛ أشعر بالغثيان والدوار بعد كل جلسة غسيل".

تتوقف لوهلة وتنظر إلى أنابيب الجهاز الملتفة حول ذراعها، كأنّها شرايين حياةٍ مؤقتة، ثم تضيف بصوتٍ واهن: "كل جلسة غسيل رحلة بين الحياة والموت، أعيش في خوفٍ دائم من مضاعفات قد تُنهي حياتي".

ورغم أن الخوف يسكن تفاصيل يومها، إلا أن بصيص الأمل بالسفر للعلاج يظل يطلّ عليها من خلف أنين الأجهزة. تنتظر خبرًا عن موافقةٍ طبية قد تتيح لها السفر والعلاج في الخارج، لعلّها تجد هناك فرصةً تنقذ حياتها وتُنهي معاناتها الطويلة مع أجهزة الغسيل ونقص المصدر المائي النقي.

تنظر إلى الجهاز من جديد وتتنفس ببطء، وخلف ابتسامتها الخافتة تختبئ امرأة تُحارب بصمتٍ ما لا يُرى: المرض، العجز، وندرة المورد الحيوي الذي بات يهدد حياتها في كل جلسة غسيل.

أما فريد صبحي (50 عامًا) فلم يعد يرى في العلاج نافذة نجاة، بل بداية لمعاناةٍ جديدة قد تفضي به إلى الموت. يروي بقسوة: "السائل المستخدم في الغسيل – مياه الميكروبي – (غير المقطّرة) تسبب لي آثارًا جانبية رهيبة؛ حكة شديدة لا تُحتمل، وهبوطاً حادًا في الضغط يفقدني الوعي".

بملامح مُتعبة وصوتٍ مبحوح يضيف: "في كل مرة أذهب فيها للغسيل، أدخل في رهانٍ مع الموت. ليست الكلى وحدها هي الخطر، بل الإمدادات غير المعالجة التي يُفترض أن تنقذني قد تقتلني."

ويغوص صبحي في دوامة تساؤلاتٍ مرة: "أحياناً أفكر، لماذا أذهب للغسيل أساساً؟ لأعاني أكثر؟ لأشعر بأن جسدي يحترق من الداخل؟ لكني أذهب لأني أريد أن أعيش لأجل أطفالي، رغم أن الحياة التي أعيشها أشبه بالتعذيب اليومي."

الطبيب المشرف على حالتهما، أشرف العويني، يؤكد أن معاناة هؤلاء المرضى ليست نفسية، بل نتيجة مباشرة لاختلالٍ صحيٍّ حادّ. يقول: "مرضى الفشل الكلوي يحتاجون إلى مياه منخفضة المعادن لأن كليتهم لا تستطيع تصفية السموم بشكلٍ طبيعي. استخدام مياه مرتفعة المعادن يؤدي إلى تراكم السموم في الجسم، وارتفاع الضغط، ومشاكل في القلب".

ويحذر من أنّ كل جلسة غسيل تُجرى بمياه غير مطابقة للمواصفات الطبية تمثل خطرًا مباشرًا على حياة المريض. يُضيف: "المشكلة لا تكمن في المرض نفسه، بل في نقص الموارد الأساسية في غزة، من المياه المقطّرة إلى المستلزمات الطبية الضرورية. هذا الواقع يجعل كل جلسة غسيل للكلى اختبارًا قاسيًا للحياة، تُجرى في ظروفٍ تفتقر لأبسط مقومات الرعاية الطبية".

ويوضح العويني بتفصيلٍ أكبر أن ارتفاع مستويات الكالسيوم والبوتاسيوم في الماء المستخدم للغسيل يمكن أن يؤدي إلى اضطراب كهرباء القلب، وتقلّصات عضلية خطيرة، بل وتوقف مفاجئ لعضلة القلب. يقول: "الجسم لا يتحمل هذه النسب، فهي سامة للمرضى الذين لا تستطيع كليتهم تصريفها. في بعض الحالات نضطر إلى وقف الجلسة مؤقتًا لتفادي مضاعفات قاتلة."

يعمل الغسيل الكلوي على مبدأ تنقية الدم من السموم عن طريق انتقالها من الدم (عالٍ التركيز) إلى مياه الغسيل (منخفضة التركيز)، لكن عندما تكون مياه الغسيل نفسها ملوثةً بالمعادن كالبوتاسيوم والكالسيوم، تنقلب العملية؛ فبدلاً من سحب السموم من الدم، تُضخ هذه المعادن السامة مباشرةً إلى شرايين المريض، مما يحول جلسة العلاج إلى جلسة تسمم بطيء.

قبل الحرب، كان مريض الكلى في قطاع غزة يخضع لثلاث جلسات غسيل أسبوعيًا، تمتد كل واحدة منها نحو أربع ساعات باستخدام ماء مقطر نقي تُنتجها محطات التحلية المحلية.

أما اليوم، فمع النقص الحاد في الإمدادات المائية والوقود، تقلّصت الجلسات إلى واحدة أو اثنتين أسبوعيًا في بعض المراكز، وجرى تقليص مدتها لتوفير الموارد. حتى جودة المصدر المستخدم في الغسيل تغيّرت: ما كان نقيًا أصبح الآن مُحمّلًا بالأملاح والمعادن، ما جعل العلاج ذاته يتحوّل إلى تهديد.

الوضع ذاته تعانيه الشابة سلمى مسلم (23 عامًا)، لتكمل الصورة القاتمة. بين نار المرض وجحيم الحرب، تتحوّل رحلتها اليومية بحثًا عن قطرة نقية إلى كابوسٍ مُتجدِّد. تقول: "كنت أحلم كأيّ شابة في عمري بمستقبلٍ جميل، لكن حلمي صار العثور على مورد نظيف أُكمل بها جلسة الغسيل. حتى بعد الهدوء النسبي، يراودني الخوف من انقطاع الكهرباء أو تعطل الجهاز في أي لحظة."

وراء الشهادات الفردية، تبرز الأرقام لتكشف حجم الكارثة الحقيقي. فبحسب تقارير وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمة الصحة العالمية (مايو 2025)، توقفت 90% من محطات تحلية المياه و80% من محطات الصرف الصحي عن العمل؛ ما أدى إلى انهيار نظام إنتاج المياه المقطّرة المستخدم في المستشفيات؛ الأمر الذي يُجبر مرضى الكلى على الغسيل بإمدادات غير مطابقة للمواصفات الطبية، فيتلقون علاجًا قد يُهدد حياتهم مع كل جلسة.

وحتى أكتوبر 2025، تشير تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن ثلاثة مراكز فقط ما زالت تقدّم خدمات الغسيل فعليًا، بما لا يتجاوز 114 جهازًا عاملًا، نتيجة التدمير والإخلاء كواحدة من تدّاعيات الأحداث الآنفة. في المقابل، لا تعمل سوى 40% من مرافق مياه الشرب بصورة جزئية، بعد أن دمّرت الحرب 85% من شبكات المياه والصرف الصحي.

ويؤكد مدير وحدة المعلومات في وزارة الصحة الفلسطينية، زاهر الوحيدي، أنّ أكثر من 41% من مرضى الغسيل الكلوي فقدوا حياتهم نتيجة تدهور الرّعاية الصحيّة، من أصل 1100 مريض، ولم يتبقّ اليوم سوى 630 مريضًا.

ويضيف الوحيدي: "تعود أسباب الكارثة إلى بداية النزاع، إذ لم يدخل إلى القطاع سوى كميات ضئيلة من الأدوية، بينما لم يُسمح بدخول أي أجهزة أو معدات طبية بسبب القيود الإسرائيلية المشددة"، مشيرًا إلى أن الوزارة باتت عاجزة عن تغطية النقص الحاد في الأدوية والمستهلكات الطبية الأساسية نتيجة توقف الإمدادات منذ أشهر.

ووفق منظمة الصحة العالمية إقليم شرق المتوسط (EMRO)، فإن المراكز العاملة تخدم حاليًا نحو 680 مريضًا، في حين توفي أكثر من 450 منذ بداية الحرب بسبب تلوث المياه أو تعطل الجلسات المنتظمة.

وليس البالغون وحدهم من يعانون؛ فالمأساة تمتد إلى أصغر المرضى. تقول الممرضة دعاء خضر من مستشفى ناصر الطبي: "لدينا أطفال تتراوح أعمارهم بين 8 و14 عامًا يأتون مرة واحدة في الأسبوع فقط. بعضهم يتقيأ خلال الجلسة بسبب نوعية المياه الرديئة، وآخرون يفقدون الوعي من التعب." 

وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أنّ 40 طفلًا في غزة مصابون بالفشل الكلوي المزمن، تُوفي عدد منهم منذ اندلاع الحرب بسبب انقطاع الإمدادات وانخفاض جودة المياه.

أما المختص في شؤون البيئة، المهندس سعيد العكلوك، فيصف الوضع المائي في قطاع غزة بأنّه "كارثي بكل المقاييس"، موضحًا أن الخزان الجوفي – وهو المصدر الوحيد للمياه في القطاع – بات على حافة الانهيار.

كما يُحذّر من تفاقم الأزمة قائلاً: "الدمار الواسع الذي خلّفته الحرب أثّر بشكل مباشر على نوعية المياه التي يعتمد عليها مرضى الفشل الكلوي، إذ إنّ نسبة الملوحة والأملاح الذائبة في المياه ما تزال مرتفعة جدًا، ما يُشكّل خطرًا حقيقيًا على حياتهم".

ويضيف أن نسبة الملوحة في بعض الآبار الساحلية تتجاوز 3000 جزء في المليون، أي أعلى بست مرات من الحد المسموح للشرب.

ويوضح أن نصيب الفرد من المياه انخفض من 80 لترًا يوميًا قبل النزاع إلى ما بين 6 و8 لترات فقط، بسبب تدمير الشبكات ونقص الوقود اللازم لتشغيل الآبار، وتدمير أكثر من 85% من شبكة المياه والصرف الصحي؛ ما أدى إلى تداخلٍ خطير بين مياه الشرب والمياه العادمة.

يُصنّف المحامي يحيى محارب هذا الوضع على أنه انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. ويشير إلى أن المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة تلزم القوة القائمة بالاحتلال بتأمين الإمدادات الطبية والرعاية الصحية للسكان المدنيين، بما في ذلك توفير المياه النقية كشرط أساسي للعلاج المنقذ للحياة. 

كما أن حرمان مرضى الكلى من المياه المقطّرة يُمثل شكلاً من أشكال "التجويع الطبي"، الذي يمكن أن يصل إلى مستوى جريمة حرب وفقاً للمادة 8 من نظام روما الأساسي، التي تحظر استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب.

على الجانب الآخر، مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار المرحلي حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر 2025، بدأت منظمات الإغاثة الدولية التحرك لاستئناف إدخال المساعدات إلى غزة، إذ أعلنت الأمم المتحدة خطة لتسريع تدفق الإمدادات خلال الأسابيع المقبلة، تشمل فتح معبري كرم أبو سالم ورفح أمام شاحنات الوقود والمياه والمستلزمات الطبية. 

وأكدت منظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر أن جزءًا من شحنات مواد التحلية والمحاليل الكيميائية بدأ بالوصول إلى مستشفيات غزة بعد أشهر من التعطّل، فيما وصفت أطباء بلا حدود الوضع بأنه "حرِج للغاية"، محذّرة من أن استمرار القيود على دخول الوقود والمياه النقية سيقوّض أي جهود لإنعاش وحدات الغسيل الكلوي رغم الهدنة.

لكن تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن الهدوء الميداني لا يعني تعافي النظام الصحي، إذ ما تزال مرافق القطاع مهددة بالانهيار نتيجة تلوّث مصادر المياه وتدمير شبكات الصرف، الأمر الذي يرفع معدلات أمراض الكبد والتهابات الجهاز البولي والفشل الكلوي المكتسب. وتقدّر لجنة الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) أن إصلاح الخزان الجوفي والتربة قد يستغرق عقودًا، ما يعني أن الخطر الصحي في غزة سيستمر طويلًا بعد توقف الحرب.

كل ذلك يطرح سؤالًا مؤلمًا لا يجد جوابًا: كيف يُمكن إنقاذ حياةٍ تُغسل بماءٍ لا يصلح للحياة؟ ويختتم الطبيب العويني حديثه قائلاً: "الحل لا يكمن في المساعدات المؤقتة، بل في إعادة بناء منظومة المياه والتحلية لتأمين مصدرٍ نقيٍّ ودائم لمرضى الكلى، موضحًا أن "النجاة لن تكون ممكنة دون علاج جذري لأزمة المياه في غزة.".