وصلت ذكريات كلوب (46 عامًا) من سكان البريج وسط قطاع غزة إلى مستشفى شهداء الأقصى وهي بالكادّ تستطيع الوقوف على قدميها. لم تكن تقصد المستشفى لعلاجها، بل كانت ترافق ابنتها التي أنجبت بعملية قيصرية، وهناك لاحظت الطبيبة على وجهها شحوبًا لافتًا.
تقول: "كنت أبيت مع ابنتي في المستشفى، فرأتني الطبيبة التي تتابع حالتها وقالت لي: وجهك شاحب ويبدو أن دمك ضعيف، اذهبي فورًا واعملي فحص دم CBC".
توجهت كلوب لتُجري الفحص، وهناك كانت المفاجأة. تقول: "تفاجأت أن نسبة دمي 5.9، فاضطررت إلى شراء أنبوبة الفحص بـ 15 شيكلًا. ولم يكن لدي المال ولا أعلم أننا سنشتريها على حسابنا الخاص فاستدنت المبلغ."
تضيف وهي تمسح عرقها بتعب: "لم أتوقع أن يصل دمي إلى هذه الدرجة، كنت أشعر بالدوار والتعب، لكنني ظننت أنه بسبب الإرهاق وقلة الطعام، خاصة بعد ظروف المجاعة التي مررنا بها."
كلوب واحدة من آلاف الحالات في قطاع غزة، التي تُجبر على شراء مستلزمات طبيّة ولوازم مخبرية يُفترض أن توفرها المستشفيات الحكومية مجانًا، في ظلّ توقف الدعم الدولي وصعوبة دخول المعدات الطبيّة عبر المعابر المغلقة.
داخل قسم بنك الدم في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، تتكشف يوميًا قصص إنسانية مؤلمة لمرضى وجرحى يكابدون الألم وسط عجز الأجهزة الطبية ونقص اللوازم المخبرية الأساسية. بين أنبوبة فحص تُشترى بالدَّين، ووحدة دم تُنقل دون فحص، تبدو حياة الناس في كفة الخطر.
يرقد محمد هارون (22 عامًا)، الذي أُصيب بشظايا في يده وقدمه أثناء قصف وسط مدينة غزة. يقول بصوتٍ واهن: "لم أتوقع أن أعيش، كنت في غيبوبة وصحوت في المستشفى، أدخلني الأطباء العمليات فورًا، وكانت نسبة الدم لدي 7، فتبرع لي إخوتي مباشرة دون فحص."
يحتاج هارون الآن إلى فحص دم متكرر كل بضع ساعات لمراقبة وضعه، لكنه يواجه معاناة مشابهة: "شقيقي يشتري أنبوبة الفحص على حسابه، وهي من المفترض أن تكون متوفرة مجانًا، فضلًا عن الأدوية والعلاجات الأخرى التي ندفع ثمنها من جيوبنا".
أما الطفل مؤمن أبو حليمة، "ثلاثة أعوام"، فقد دخل في نوبة تشنج مفاجئة أرعبت عائلته. يروي والده طارق بحرقة: "لم يكن هناك فحص يُظهر السبب، الأطباء خمنوا أنها التهابات أو مياه ملوثة أو حرارة، لكن لا يوجد جهاز ولا تحليل خاص بالتشنجات."
بعد أربعة أيام في المستشفى، غادر مؤمن إثر تحسن طفيف دون أن يُعرف سبب حالته. يردف الأب بأسى: "ذهبت إلى طبيب خاص، فقال لي: لا أستطيع تشخيص ابنك إلا بفحص وصور دماغ، لكن لا توجد أدوات (..) طفلي عاش حربًا ونزوحًا، وها هو يواجه مرضًا مجهولًا بلا تشخيص."
هذه الحالات، التي تتكرر في مختلف مستشفيات القطاع، تكشف كيف تآكلت قدرة النظام الصحي على التشخيص، لتتحوّل الرّعاية الطبيّة إلى اجتهادات تُبنى على الحدس لا على الفحص العلمي.
ووفق تقديرات طبيّة غير رسمية، تضاعف عدد وحدات الدم غير المفحوصة في الأشهر الماضية مع اشتداد القتال وانعدام الوقود اللازم لتشغيل الكهرباء داخل المستشفيات. فيما تشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى أن أكثر من 60% من التحاليل المخبرية الروتينية متوقفة منذ مطلع عام 2025، فيما تتعطلّ مختبرات رئيسية يوميًا في مستشفيات قطاع غزة بسبب انقطاع الكهرباء ونفاد المواد الكيميائية والمحاليل.
تروي مراسلة آخر قصة شهادة لواقعة حدثت خلال انتظارها لمقابلة مدير مختبر بنك الدم، تُلخص مأساة النظام الصحي: أحد المراجعين اكتشف أن فصيلة الدم التي جرى فحصها لشقيقه قبل عملية عاجلة كانتA موجب، فيما فصيلة المريض O سالب.
استغرق الفحص نصف ساعة، ما دفع الطبيب إلى الهرع نحو قسم الطوارئ للتأكد من العينة قبل نقل المريض للعمليات، خوفًا من نقل دم خاطئ قد يودي بحياته.
ووفقًا لقراءة الواقع الصحي في قطاع غزة، فإنّ هذه الحادثة ليست مصادفة أو معزولة، بل نتيجة مباشرة لانهيار منظومة الجودة والسلامة داخل المختبرات التي تفتقر للكوادر والمعدات.
رئيس قسم بنك الدم في مستشفى شهداء الأقصى، الطبيب عبد الله وشاح، يقول إن المختبرات في غزة تعيش حالة "انهيار شبه تام"، موضحًا أنّ النقص يشمل جانبين: الأجهزة من جهة، ومواد الفحص وأنابيب التحليل من جهة أخرى.
يردف: "الأجهزة قبل الحرب كانت قديمة، واليوم أكثر من ثلثها خارج الخدمة"، مشيرًا إلى أن أجهزة فحص الدم الأساسية (CBC) تعطّل منها أربعة من أصل خمسة، بينما يعمل الجهاز المتبقي بجودة منخفضة ونتائج غير دقيقة فالنتائج التي كانت تظهر خلال دقيقة واحدة تستغرق اليوم نصف ساعة.
ويوضح أن جهاز فحص الفيروسات المعدية، الخاصة بالكبد الوبائي والإيدز، متوقف بالكامل، ما يجعل نقل الدم للمصابين يتم في كثير من الأحيان دون فحص مسبق.
يتابع وشاح: "كنا نفحص كل وحدة دم قبل نقلها للمريض، لكن الآن كثير من الدم يُنقل دون فحص، ما يفتح احتمال انتقال أمراض معدية خطيرة. خلال شهري نوفمبر وديسمبر عام 2024 نُقلت وحدات دم دون فحص قُدّرت بنحو 2000 وحدة."
ويفيد أنّ المواد المخبرية والأنابيب كانت متوفرة مع بداية الحرب، لكنها استُنزفت مع طول أمدها حيث استمرت لعامين متواصلين، وما يدخل عبر الوفود الطبية لا يغطي إلا جزءًا محدودًا من الاحتياج.
يضيف: "قبل اندلاع النزاع كان 20% من الأجهزة تعمل بشكل طبيعي و80% تحتاج إلى صيانة أسبوعية، أما اليوم فـ30% من الأجهزة خرجت عن الخدمة، و70% تتطلب صيانة يومية، حتى إن ثلاجة بنك الدم تحتاج إلى صيانة كل يوم تقريبًا."
وقد تسبب ضغط العمل الكبير ومنع دخول قطع الغيار في خسارة معظم الأجهزة الحيوية، وفقًا لوشاح، ما أجبر الطواقم على العودة إلى استخدام أدوات بدائية تعود لعقود سابقة. يتابع: "نحاول فقط الإبقاء على الحدّ الأدنى من القدرة التشغيلية، لكن حياة المرضى باتت معلقة بقطعة غيار لا تدخل. وأكثر المتضررين هم مرضى الأنيميا والسرطان والمصابون بجراح متعددة."
ويحذر وشاح من أن الظروف الحالية جعلت الالتهابات البسيطة قادرة على قتل المرضى، بسبب غياب الفحوصات الدقيقة، ونقل الدم غير الآمن، ونقص التعقيم والمضادات الحيوية، مضيفًا أن الواقع الطبي في غزة أعاد الطواقم إلى أساليب عمل تشبه ما كان قبل خمسين عامًا. ويختم بصوتٍ متهدّج: "لم نعد نطلب رفاهية العمل الكامل، فقط نريد ما يُبقي المرضى على قيد الحياة."
ورغم المراسلات المتكررة لتوفير الأجهزة واللوازم، فإن استمرار الحصار ومنع دخول المعدات جعل المختبرات تعمل في الحد الأدنى من قدرتها، فيما تبقى حياة مئات المرضى معلقة بأنبوبة فحص صغيرة لا تتوفر إلا بثمن.
غير أن توقف القتال خلال الأيام القليلة الماضية أعاد بصيصًا من الأمل إلى العاملين في القطاع الصحي، الذين يرون في هذا الهدوء فرصة لإصلاح ما تبقّى من الأجهزة واستعادة القدرة على إجراء الفحوصات التي توقفت منذ شهور.