وهم السفر: مَن يبيع وعود الإجلاء للغزيين؟

وهم السفر: مَن يبيع وعود الإجلاء للغزيين؟

في خيمةٍ باليةٍ مرّت عليها الفصول الأربعة خلال عامين من النزاع الذي أنهك قطاع غزة، يجلس قصي صالح (34 عامًا) متأملًا رسالةً وصلته عبر "واتساب" من محامٍ إيطالي كان قد تواصل معه سابقًا. الرسالة تطلب منه دفع مبلغٍ قدره أربعة آلاف دولار مقابل وضع اسمه على قوائم الإجلاء من غزة. 

ينظر صالح إلى وجوه أطفاله واحدًا تلو الآخر، ثم إلى زوجته وبقية عائلته، ويسأل نفسه: هل أجازف؟ هل هذا احتيال؟ بعد دقائق يكتب ردّه: "نعم، سأدفع.. لكن يرجى تسريع خروجي من الجحيم".

جمع صالح نحو أربعين ألف دولار بشق الأنفس، دفع جزءًا كبيرًا منها مقابل الهروب من الحرب الإسرائيلية التي أنهكت القطاع على مدار عامين كاملين. يقول بصوتٍ خفيض: "دُمر بيتي في خانيونس، ولم يتبقَّ لي ما أبقى لأجله، لذلك سأسافر طلبًا للنجاة من الموت والجوع. من حولي يرون أنني مجنون بدفع مبلغٍ كهذا، لكنني فقط أريد الحياة". 

في حديثه مع مراسلة "آخر قصة" رفض الرجل الإفصاح عن تفاصيل وصوله إلى المحامي الإيطالي أو آلية التنسيق والدفع، وعندما واجهه صديقه بشكوكه بأنّه وقع ضحية احتيال بسبب المماطلة في تحديد موعد السفر، أكد أنه ما زال يثق بأنه سيسافر بنسبة 80%، رغم غياب أي دليلٍ قاطع على صحة وعود المحامي.

في غزة، وبينما يسود هدوء ما بعد القصف، يتشبث الناس بأي سبيلٍ للخلاص من دوامة الدمار. الرغبة في الرحيل من تحت الركام دفعت كثيرين إلى المغامرة بما تبقّى لديهم، ليجدوا أنفسهم فريسةً سهلة للمحتالين، عالقين بين وعودٍ كاذبة وأملٍ لا يموت.

ومع استمرار إغلاق معبر رفح منذ مايو/أيار 2024، بقي السفر مقتصرًا على حالاتٍ محدودة من المرضى والطلاب الحاصلين على منحٍ دراسية أو لمّ شمل، فانقطعت السبل بالراغبين في الخروج، وبدأ البحث عن أي وسيلةٍ مهما بلغت درجة المجازفة.

رحاب أحمد (56 عامًا) كانت من بين الذين صدّقوا تلك الوعود. ظهر أمامها إعلانٌ ممول على موقع "فيسبوك" يفيد بتسهيل السفر من غزة إلى أوروبا. تحمّست، وسجّلت بيانات أولادها الثلاثة على الفور رغبةً في إخراجهم من الحرب مع أطفالهم. 

تقول بصوتٍ منهك: "عندما رأيت اسم المؤسسة وتعريفها ظننتها حقيقية، خصوصًا أن كثيرين سافروا ولا أحد يخبرك كيف. فقلت أجرب حظي ولندفع مبلغًا من المال لا بأس". تواصلت معهم، فأخبروها أنهم بحاجة لمعرفة الوجهة التي ترغب بالسفر إليها، فاختارت أوروبا وتحديدًا بلجيكا، بعد أن أكّدوا أن عملهم مجاني.

 لكن بعد أيامٍ أخبروها أن الدولة التي اختارتها أغلقت أبوابها لكثرة المسجلين، وأن أمامها خيارين فقط: ماليزيا أو إندونيسيا، على أن تدفع مبلغًا ماليًا بعد إظهار "الفحص الأمني" المكتوب بالعبرية وإرسال موعد السفر. دفعت المبلغ كاملًا عبر محفظة USDT الرقمية، لكن بعد التحويل اختفى الحساب، وحُظرت من التواصل معهم.

يحيى محمد (30 عامًا) خاض تجربةً مشابهة. سمع عن مؤسسة تُدعى "المجد" تعمل على إجلاء مواطنين من غزة إلى ماليزيا أو إندونيسيا أو جنوب إفريقيا، وتحدث كثيرون عن نجاحها في إجلاء 57 شخصًا بالفعل، فقرر التسجيل هو وزوجته. 

يقول محمد: "لم أشك بمصداقيتهم لأنهم أخرجوا فوجًا سابقًا، لذلك قمت بمراسلتهم ليخبروني أنهم يعملون في الإجلاء الإنساني، لكنهم طلبوا 1200 دولار. أشخاصٌ غيري دُفع لهم مبالغ أكبر، وعندها شعرت أن هناك فخًا في الوسط".

الصحافية عبير أيوب، التي أجرت تحقيقًا موسعًا حول المؤسسة، تقول لـ "آخر قصة"، إن "المجد" ادّعت أنها مؤسسة ألمانية مقرها في حي الشيخ جراح بالقدس، وهو ما تبيّن أنه غير صحيح. في بدايتها، فتحت المؤسسة رابط تسجيلٍ لأهل غزة، وسجّل عليه عدد محدود من المواطنين، وتمكّن 57 شخصًا من السفر عبر مطار رامون إلى ماليزيا وإندونيسيا. 

لكن بعد ذلك، لم يتمكن أي شخصٍ آخر من السفر من خلالها، رغم استمرارها في استقبال التسجيلات وطلب مبالغ تتراوح بين ألف وألفي دولار من الغزيين، مستندةً إلى تجربة الفوج الأول الذي سافر بالفعل.

كشفت أيوب أن مؤسسة "المجد" وهمية بالكامل، إذ تستخدم على موقعها صورًا صُمّمت بالذكاء الاصطناعي لموظفيها، ولا وجود لأي مؤسسةٍ مرخصةٍ في ألمانيا بهذا الاسم. كما أن الموقع الإلكتروني تأسس قبل أقل من عام رغم زعمه أنه أُنشئ عام 2011. وأوضحت أن للمؤسسة "شراكة" مع جهةٍ وهميةٍ أخرى تُدعى "تالنت جلوبس"، يوجد فيها موظفٌ واحدٌ فقط يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والإستونية.

نور عبد الرحمن (35 عامًا)، أرملة وأم لأربعة أطفال، فقدَت منزلها في خانيونس وتدهورت حالتها النفسية. بحثت عن أي وسيلةٍ للخروج من غزة، حتى أخبرها أحد معارفها عن محامٍ يساعد في الإجلاء. تقول: "تواصلت معه فأخبرني أن عليّ دفع مبلغ 2000 دولار كدفعة أولى، فرفضت. وبعد أيام عاد ليخبرني أن اسمي رُشّح للسفر إلى السويد، وأن رسالةً من السفارة ستصلني قريبًا، وبالفعل حدث ذلك. عندها دفعت الدفعة الأولى بعد تردد". 

تضيف السيدة: "بدأت الإجراءات تبدو حقيقية أمامي ووقعت في الفخ، حتى قرأت منشورًا على التلجرام يحكي طريقة النصب نفسها، وفي الوقت ذاته راسلني المحامي مجددًا طالبًا دفع الدفعة الثانية لاستكمال الإجراءات. رفضت وطلبت الانتظار، وإذ به يحظرني".

من الناحية القانونية، يرى المحامي حماد اضهير أن ما يفعله هؤلاء المحتالون هو جريمة احتيالٍ مكتملة الأركان. فبحسب المادة 301 من قانون العقوبات الفلسطيني، فإن الحصول على الأموال بالنصب والغش يُعد جناية يعاقب عليها القانون بالسجن حتى خمس سنوات. 

لكن اضهير يؤكد أنّ الواقع القانوني اليوم لا يتيح للضحايا أي وسيلةٍ لاسترداد حقوقهم في ظلّ غياب السلطة القضائية والتنفيذية بسبب الحرب، مشيرًا إلى أن أغلب هذه الجرائم "مستمرة" بمعناها القانوني، إذ يشترك فيها فاعلون أصليون وشركاء داخل غزة وخارجها، ما يستدعي ملاحقةً جنائيةً واسعة النطاق، تشمل تدخل الإنتربول الدولي في مثل هذه الحالات.

ودعا المحامي اضهير إلى نشر الثقافة القانونية بين المواطنين وتفعيل آليات ردعٍ مؤقتة، مثل تعميم أسماء المشتبه بهم المتداولة عبر المنصات العامة، أو تفويض أشخاصٍ وهيئاتٍ خارج القطاع لمتابعة هذه القضايا في الخارج.

ومع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وبدء الترتيبات لإعادة فتح معبر رفح تدريجيًا أمام المرضى والعالقين، يتمسك الغزيون بالأمل في الخروج من ضيق الحصار إلى فسحة النجاة. غير أن قصص الاحتيال المالي التي تستهدف الراغبين في السفر تتكاثر، تقف وراءها جهات وأشخاص وهميون، ليجد كثيرون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما البقاء في أرضٍ أنهكتها الحرب، أو الوقوع في فخّ جديد يُباع فيه الأمل بثمن الخلاص.