لا تمتلك الكثير من النساء في الأراضي الفلسطينية من أمرهن شيئًا، ليس لعجزهن عن اتخاذ قرار يخص حياتهن الشخصية، ولكن لأنّ سطوة العائلة أحيانًا تتجاهل الاستماع إلى أصوات النساء فيما يخص أمر الزواج.
يتعمق هذا التجاهل ومصادرة آراء النساء الأرامل في اتخاذ قرار الزواج مجددًا، تحت رماد ودخان الحرب المتواصلة في قطاع غزة منذ عامين كاملين. وحين تنتهي قصص الزواج بالفقد، تبدأ قصة أخرى من نوع مختلف. قصة لا تُسجّل في سجلات الحرب، لكنها تنحت ملامحها في عمق التقاليد الاجتماعية، حاملةً معها أعباءً قد تكون أثقل من ركام المنازل.
داخل خيمة سقفها صفيحي كانت مقامة قبل شهر واحد على الأقل، على أطراف حي تل الهوى جنوب غرب مدينة غزة، حيث لا يزال هواء الصباح يحمل عبق الذخيرة، كان يجلس خالد عبد الواحد (*) على أريكة بالية في غرفة الاستقبال. عمره لا يتجاوز التاسع عشرة، لكنّ عينيه تحملان عمقًا لا يناسب سنّه.
بيدٍ مرتعشة، يدخن خالد سيجارةً، نظراته شاخصة. إنه "العريس الصغير"، وهو مصطلح أطلقناه في (آخر قصة) لوصف واقع تزويج الفتيان المراهقين من أرامل إخوتهم الذين قضوا في الحرب.
وحتى لو لم تكن مجرد ظاهرة، لكنّها قضية تستوجب البحث عن الدوافع الكامنة وراءها، لاسيما أنها في الغالب تقوم على عكس رغبة الطرفين أو أحدهما، لكن في نهاية الأمر "مجبرٌ أخاك لا بطل"، فهما مضطرين للاستجابة إلى سطوة العائلة.
خالد لم يختر هذا المصير. فبعد استشهاد أخيه الأكبر محمد (32 عامًا) في إحدى الغارات، تاركًا وراءه زوجته آية (28 عامًا) وثلاثة أطفال، كانت "الوصية الاجتماعية" هي الحلّ الجاهز. "الولد يصبح رجل البيت الجديد، يصون عرض أخوه ويربي أولاده"، هكذا قالت له أمه وهي تبكي. فيما لم يكن أمامه من خيار سوى القبول، متخليًا بذلك عن أحلامه في مواصلة دراسته الجامعية في كلية التمريض.
ويرى المجتمع الغزي في هذه الخطوة "صونًا للعرض"، ضاربًا بعرض الحائط سنّ المراهق وحقه في بناء مستقبله، أو حتى حق الأرملة في تربية أبناءها بعيدًا عن وجود رجل آخر في حياتها، أو مع رجلٍ تختاره هي.
تتناثر القصص في غزة بين خيام النزوح وأحيانًا بين منشورات التواصل الاجتماعي في الأوقات التي يمكن أن يتصل فيها الانترنت بأعجوبة على ضوء انهيار البنى التحتية بشكلٍ كامل.
إحدى السيدات علقت على منشور بشيء من الحسرة: "ابن عمي كان في الصف الثاني عشر، أجبروه على الزواج من أرملة أخيه البالغة من العمر 30 عامًا. ترك المدرسة وأصبح أبًا لأربعة أطفال بين عشية وضحاها".
وعلى الرغم من الجدل الدائر في التعليقات حول مدى أهلية هؤلاء الشباب الصغار على تحمل أعباء ومسؤولية أسر بأكملها، لكن هناك من يدافع. حيث انبرى أحد الأشخاص للدفاع عن الفكرة: "في ظلّ الظروف الصعبة، وغياب الموارد، وعدم قدرة الأرملة على توفير المأوى والمعيشة، هذا الحلّ يحفظ كرامة الأسرة ويوفر الحماية للأرملة والأطفال".
وتقدّر بعض الإحصاءات غير الرسمية التي يتداولها العامة أن عشرات من حالات الزواج هذه تمت قبل حتى أن تخمد جذوة الحرب الدائرة في غزة، حيث يتراوح عمر العريس عادة بين 17 و20 عاماً، بينما تصل أعمار العرائس أحياناً إلى 27 عاماً أو أكثر.
في الشقة الصغيرة التي تسكنها مع أطفالها، تتحرك السيدة "آية" بهدوء شاحب. ترتدي عباءة سوداء، وعيناها تبدوان أكبر من وجهها النحيل. ترفض في البداية الحديث، ثم تهمس وكأنها تخاف أن يسمعها أحد: "كنت أتمنى الموت مع محمد. الآن أشعر بأنني عبء على طفل... على خالد. أشعر أنه يتحمل الآن مسؤولية تفوق عمره بكثير، وهذا ليس ذنبه لكننا لا نملك الرفض لأننا سنقع في خلافات عميقة ربما تنتهي بفقدان حضانة أطفالي".
صوت آية يكاد يختفي عندما تسرد كيف أن طفليها الأصغر سنًا لا يزالان يناديان خالد باسم أبيهم الراحل، فيما ينظر الابن الأكبر بعينين حادتين مليئتين بالارتباك.
العلاقة بينهما، كما تصفها، هي علاقة أشقاء تربطهم مأساة مشتركة. "ننام في غرف منفصلة، نتحدث فقط في شؤون الأطفال والمعيشة، وفي الغالب ليست هناك قواسم مشتركة فيما بيينا".
تضيف وحمرة الخجل تعتلي وجهها: "ليس بالإمكان أن أطلق على محمد كلمة زوج بالمعنى الحرفي، لكنه في نهاية المطاف هناك قرارًا اتخذناه بالإكراه ونحن مضطرون للتعامل مع الواقع (..)، هو من ناحية يخشى عصيان ومخالفة رأي والدته، وأنا خشيت من فقدان الوصاية على أطفالي ودفعي لترك الأسرة والعيش رفقة أهلي الذين فقدوا بيتهم ويعيشون الآن داخل خيمة".
هذا المشهد ليس نادرًا، فكثير من هذه الزيجات تتحوّل إلى علاقة شكلّية تحكمها التقاليد وليس المودة، مما يخلق توترًا صامتًا يهدد بالانفجار في أي لحظة.
الأخصائي النفسي محمد مهنا، يوضح من جهته، أن هذه الظاهرة تخلق أضرارًا نفسية جسيمة للطرفين. "الفتى المراهق يُجبر على تحمل مسؤوليات تفوق قدرته النفسية والاجتماعية، في المقابل السيدة تشعر بأنّ هناك شخص جديد يشكل عبء إضافي على الأسرة، إما لعدم نضوجة أو لعدم قدرته على تحمل المسؤولية، أو لعدم وجود قواسم مشتركة بين الشخصين حديثي الزواج".
وأوضح مهنا، أن الشاب في الغالب يشعر بالاغتراب عن أقرانه، يفقد حماسه وشغفه نحو مواصلة دراسته أو عمله لتحقيق أحلامه، وقد ينمو بداخله كبت و استياء تجاه الأسرة والأرملة".
بالنسبة للزوجة، يشير الأخصائي، إلى أنها قد "تشعر بالذنب لكونها سببًا في إرهاق حياة فتى أو شاب صغير، كما تعاني من صراع بين دورها كأم وزوجة بالاسم فقط، في مجتمع يُقدِّس الأمومة ولكن ضمن إطار الزواج التقليدي".
يعود الخيط إلى خالد، يسأله أحد الجيران الزائرين عن أحلامه القديمة. يرفع رأسه للمرة الأولى، وتلمع في عينيه ذرة من الحياة التي كانت فيها. "كنت أريد أن أدرس هندسة كمبيوتر... كنت شاطر في المدرسة". يقول ذلك ثم يطأطأ رأسه.
ومن الناحية الواقعية، فإن مستقبل هذا الزواج هش، قياسًا على تجارب مجتمعية سابقة أرغم فيها الفتية أو الشبان في ريعان شبابهم على الزواج من أرامل، ومع التقدم في العمر وزيادة الوعي، والإحساس بالحرية، قرروا الثورة على هذا الوضع، تاركين زوجاتهم وأطفالهن معلقات ويتزوجن من نساء جدد.
بالكاد قبلت أمل (29 عامًا) وهي أرملة منتقبة، عزيمة زوجها الذي لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، يرافقهم الطاولة داخل مقهى وسط المحافظة الوسطى، ثلاثة أطفال أكبرهم في الخامسة من العمر.
العريس وهو الأخ الأصغر لزوجها الشهيد، يتحسس شاربه الخفيف وهو ينادي إلى النادل طالبًا قطعة من الكيك للاحتفال بذكرى ميلاد زوجته فيما الأخيرة مشغولة في محاولة إرضاء رضيعتها للتوقف عن النحيب.
ينظر الحاضرون إلى التفاعل الباهت مع طقس الاحتفال بالذكرى التي جاءت بعد أسبوعين على الزواج، على وقع القذائف وألسنة النيران. بعضهم يبارك، وبعضهم يهز رأسه حزنًا والعروس منشغلة في اسكات الفوضى التي يحدثها أطفالها في المكان.
يقول العريس الصغير، "لقد جئنا للاحتفال بذكرى ميلاد زوجتي، لكن الأطفال لم يعطونا فرصة لذلك". ثم توقف عن إجراء اللقاء وغادروا المكان والامتعاض على وجهه.
إيمان الغزالي، وهي صاحبة صالون تجميل، نشرت صورة تجمعها مع عروس تبلغ من العمر 26 عامًا ترتدي فستانًا أبيضًا، أنهت للتو تجميلها توطئة للاحتفال بعرس متواضع من شقيق زوجها الشهيد وهو في ربيعه (17). وكتبت الغزالي: "لقد قبلوا بالزواج من أجل الأيتام، إلى متى سيظل هذا الوجع.. ادعوا لنا".
وبين واجبٍ اجتماعيٍ مفروض وحقٍ إنسانيٍ مسلوب، يبقى زواج الأرامل من القاصرين مرآةً لواقعٍ يختلط فيه الحزن بالتقليد، والنجاة بالاستسلام، حيث يتحوّل الزواج من اختيارٍ إلى وصيةٍ قسريةٍ تخلّف جيلاً جديدًا يعيش على هامش الحياة.
(*) اسم مستعار