"بكرة العيد وبنعيد.. وبندبح بقرة السيد"، اعتاد أن ينشدها الأطفال مع اقتراب العيدين وهم يجوبون شوارع المخيم هرولة وبعض الأقدام حافية، كأنما يتسابقون للقبض على الضيف الذي سيحل عليهم، والاحتفاظ به قدر الإمكان، كما احتفظوا بالفوانيس الكرتونية المعلقة على أعمدة الكهرباء الخشبية منذ رمضان الماضي.
يسهر المخيم على أغنية أم كلثوم "يا ليلة العيد آنستينا"، جميع النوافذ مضاءة بـ"الليدات"-اضاءة بديلة عن الكهربائية- والشوارع تصافح النهار قبل طلوعه. ليست الإضاءة وحدها التي تبزغ من النوافذ، حديث النساء والجارات مسموع بوضوح أيضاً وهن يعرضن أذواقهن في اقتناء ملابس العيد لأطفالهم..إحداهن تقول ضاحكة معاتبة الأخرى: "ليش مش عاجبك، بكرا بنشوف لبس أولادك".
"الناس لا ينامون"، تقول فاطمة إبراهيم (30 عامًا) من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، وتتابع "يبقى الكبار والصغار في الشارع ورغم الضجة التي يحدثونها إلا أنك لا تشعر بانزعاج أو الملل".
ولا يقتصر ضجيج المارة على أنغام الست وعبارات التهنئة والمعايدة التي يتبادلها الجيران والأصحاب، بل يرافقها صوت المفرقعات الاحتفالية التي يُخفيها الأطفال في أزقة المخيم ليفاجئ بها المارة، وهي بالمناسبة عادة ممتدة على طول شهر رمضان حتى بزوغ فجر العيد، رغم أنها مزعجة بشكل كبير لدى كبار السن من سكان المخيم.
فرحة الناس هنا ابتهاجاً بدخول العيد، لها رائحة أيضاً.. النسوة يجتمعن على صناعة الكعك وتفوح له رائحة ينتشي لها الناس، وتجد الأطباق تدور على البيوت، الجميع هنا يتناول الكعك، حيث تتسابق الجارات في إطعام بعضهن والتعليق على المذاق، ويا لحظها صاحبة الكعك الأطيب.
تقول فاطمة بامتنان "كانت أمي تصنع الكعك بكميات كبيرة، ويستغرق منا ذلك ثلاثة أيام متواصلة"، تبتسم وتضيف "في بعض الأحيان كان عدد الأطباق التي تصلنا، يفوق حجم الكمية التي نصنعها".
ولا ينام أهل المخيم ليلتهم، كأنما انتظارهم يُعجل في حلول الصباح، حتى على صعيد الأطفال تجدهم يُبيتون ملابسهم الجديدة إلى جوار الوسائد، يلبسونها فور استيقاظهم و ينتعلون الأحذية الجديدة أو هكذا تبدوا، حيث اعتادت الأمهات على رتق أحذية أبنائهم لتكتمل أناقتها أمام أقرانهم.
تقول فاطمة معلقةً على هذه الحالة وتضحك مطولاً وكأن ذاكرتها استحضرت مشاهد الطفولة: "كلنا كنا نعمل هيك واحنا صغار.. وأطفالنا بعملوها، كأن اللبس حينسرق منهم".
الماراثون الليلي للأطفال في شوارع المخيم، يتجدد فجر العيد حيث يتسابقون عادة لحجز أماكن للصلاة. الطفل حمزة عائد (10 أعوام)، يقول "أذهب إلى الصلاة مع سيدي وأبوي، ولما نخلص صلاة ما بقبل أتزحزح من مكاني الا لما اخد عديتي"، ويحصل على 2 شيقل من جده ونفس الشيء بالنسبة لوالده، إلا أنه يتوعد لهما في هذا العيد "أنا مش صغير، ورح أطلب عديتي 10 شيقل من سيدي وأبوي".
وعادة يرافق انتهاء صلاة العيد انطلاق رائحة الفسيخ المقلي، الذي ورغم ملوحته لابد وأن تجد أنصارٌ له في كل بيت، وتبدأ الزوجات بإعداده قبلها بيوم، حيث ينظفونه ويتركونه بضع سويعات في الماء كي تخف درجة ملوحته، ويقدمن إلى جانبة مقلاة البندورة التي يطفو على وجها الفلفل الأخضر كعادة أهل غزة في تناول الطعام الحرّاق.
والفسيخ هو عبارة عن سمك مملّح من أنواع البوري والدنيس، يتم تخليله في الملح فترة من الزمن، يتميز برائحته النفاذة ويتناوله الغزييون في أيام عيد الفطر.
ومما تحتفظ به الذاكرة والحاضر على حد سواء، مشهد الأطفال وهم يتجمهرون حول المراجيح الحديدية التي يبقى بعضها منتصبًا في الشارع طوال العام كتمثال منسي، حيث يحظون بدقيقة من المرح مقابل شيقل واحد، لكن تعلو أصوات الأطفال "عمو الله يخليك كمان كمان" مطالبة بدورة أخرى كنوع من الإكرامية لهم.
ويصف محمود نمر (23 عامًا) فرحته برؤية الأطفال حول المراجيح، مستذكرًا طفولته "منذ الصباح وحتى غروب الشمس كنت أعمل على الأرجوحة التي تعود لجارنا، مقابل 10 شواقل أستحقها بعد تعب يوم كامل"، مشيرًا إلى أنه في احدى المرات تمكن من ادخار المال وشراء دراجة خاصة به، "كم كنت فخورًا بنفسي في ذلك الوقت رغم أنها كانت مستعملة" قال نمر.
على الرغم من وضوح المظاهر الاحتفالية كعين الشمس، ستمر أيضًا عن مجالس فُتحت للعزاء في أول أيام العيد، حيث تفتح هذه المناسبة للحزن بابًا خاصة عند عوائل الشهداء والموتى، ويقصدها أهل الحي بعد الانتهاء مباشرة من أداء الصلاة، لتقديم المواساة لهم وكأنها السنة التي تلي الصلاة.
يقول أبو معتز في العقد الخامس من العمر: "العيد فرصة لنشارك أصحابنا وجيراننا حزنهم قبل فرحهم". وأشار الرجل إلى أنه في السابق كان الناس يتوجهون إلى المقابر، ليبلّوا الشوق من موتاهم ويوزعوا "الغّريبة" -نوع من الحلوى– على زوار المقبرة.
وأضاف أبو معتز "مازالت عادة زيارة القبور في صباح العيد قائمة، لكنها أقل من السابق"، ويحصل المعزين على فنجان من القهوة وحبات التمر، بعدها يستعدون لتناول الوجبة المنتظرة "الفسيخ" ثم الانطلاق لزيارة الأرحام؛ أهم مراسم العيد بالنسبة للمسلمين.