على وقع انفجارٍ قريب، علا صوت والد آية عبد الخالق (24 عامًا) وهو يوبخها: "هل تظنين أنكِ ما زلتِ طفلة؟"، وقفت أمامه مرتبكة، تتنقل بعينيها بينه وبين والدتها وكأنّها تبحث عن مخرج. لم تكن جريمتها سوى رفض الزواج من ثلاثة خاطبين في أقلّ من عام، جميعهم برأي العائلة "فرص جيدة"، بينما تراهم هي عبئًا جديدًا في زمن الحرب والتجويع.
تشرح الفتاة أسباب رفضها الزواج في الوقت الحالي فتقول بصوتٍ متحشرج ودموعها تنهمر: "لا يريدون أن يفهموا كيف سأتزوج في بيئةٍ غير مستقرة؟ كيف وصحتي تراجعت للغاية بسبب سوء التغذية، بل كيف أبني أسرة وأنا مُدمَّرة نفسيًا".
آية ليست الوحيدة، فمئات الفتيات والشبان في قطاع غزة ينظرون إلى الزواج كفخّ يجب تجنبه في ظلّ استمرار النزاع. ورغم أنّ عقود الزواج لم تتوقف كليًا، إلا أنّ الأرقام تكشف عن تراجع كبير في حجمها.
بحسب بيانات المحاكم الشرعية في غزة، سُجِّل خلال عام 2024 نحو 3,920 معاملة زواج، مقارنةً بـ 19,167 عقدًا في عام 2022. هذا التراجع الواضح لا يخفي أن الزواج ما زال قائمًا، لكنه تغيّر في شروطه مع الحرب. فالكثير من الأعباء المادية والاجتماعية التي كانت بمثابة طقوس جوهرية قبل سنوات اختفت تقريبًا مثل المهور المرتفعة، واشتراط منزل مستقل، وتكاليف الزفاف.
أما العقود القليلة التي تُعقد اليوم تتم طقوسها البسيطة في البيوت المتضررة من القصف أو خيام النزوح أو داخل مراكز الإيواء؛ ما جعل الزواج فاقدًا لمعناه الاجتماعي السابق، ومجرد إجراء شكلي في بيئةٍ يسودها الخوف والفقر.
الشابة زينب سعدي (28 عامًا) أيضًا تخوض معركة مشابهة مع عائلتها وتقاوم ضغطهم المستمر بالقبول مع كل شاب يتقدّم إليها. مؤخرًا انفجرت مشكلة أسرية معها بعد رفضها خاطبًا يعمل في مجال التجارة ولديه بقايا شقة متضررة من قصفٍ إسرائيلي في المنطقة الوسطى، لتواجه توبيخًا متكررًا من عائلتها: "الذين في عمرك أصبح لديهن أطفال".
لكنها لم تتزحزح عن قرارها، تقول: "كنت واضحة ومُصرّة، قلت لهم إنها قناعتي وإرادتي: لا أريد الزواج في الحرب. هذه ليست الحياة التي أريد". وهربًا من هذا الواقع، بدأت تفكر جديّا في فرصة للدراسة بالخارج تُمكنها مغادرة قطاع غزة، فتتصفح يوميًا مواقع المنح الدراسية بحثًا عن فرصة لإكمال الماجستير.
قبل الأحداث الجارية، كان الزواج يُنظر إليه كخطوة طبيعية في مسار الحياة، وتقاليد اجتماعية يُقبل عليها معظم الشباب مع بلوغ منتصف العشرينيات، مدفوعين برغبة في الاستقرار وتأسيس أسرة جديدة. لكنّ الواقع تغيّر اليوم بشكلٍ جذري.
وأظهر استطلاع آراء أجرته "آخر قصة" على عيّنة من 50 شابًا وفتاة في سنّ الزواج أنّ هذه الخطوة باتت عبئًا نفسيًا واقتصاديًا، تختلط فيه المخاوف من المستقبل المجهول مع ضغوط المعيشة القاسية.
لم يعد الزواج، كما يوضح كثير من الشبان، مرتبطًا فقط بتأمين مهر أو تكاليف حفل الزفاف، بل صار مرتبطًا بالقدرة على تحمّل أعباء النزوح، والبحث عن مأوى آمن، والتعامل مع انقطاع الدخل. وما كان يومًا مصدرًا للأمان الاجتماعي تحوّل في ظلّ الحرب إلى مصدر قلق إضافي، يخشاه كثيرون باعتباره التزامًا يفوق طاقتهم.
كان محمد وليد (30 عامًا) يعيش قبل اندلاع الحرب في أكتوبر2023 حلمًا واضحًا: تجهيز شقته السكنية، تأمين المهر، وتأسيس أسرة صغيرة. بذل جهدًا كبيرًا لتطويع إمكانياته المادية وتحقيق هذا الهدف، لكنّ نزوحه القاسي من شمال قطاع غزة إلى محافظات الجنوب قلب المعادلة رأسًا على عقب.
التهمت تكاليف الخيمة والطعام والتنقلات كل ما ادّخره هذا الشاب لسنوات. وفي خضم النزوح الذي استمر أكثر من عام، حاولت والدته إقناعه بالزواج داخل إحدى الخيام، لكنه رفض بحزم قائلاً: "قد تقتلني شظية قذيفة في أي لحظة، فلماذا أبني عائلة وسط الدمار؟".
اليوم، بعدما وجد نفسه معيلًا لوالدته وإخوته من خلال بسطة صغيرة يبيع عليها مواد تموينية، يرى وليد أنّ الزواج في هذه الظروف ضرب من الظلم للنفس وللآخرين: "لا بيت ولا مال ولا حياة. أصحابي تزوجوا واستشهدوا بعد فترة قصيرة. أي فتاة تستحق أن أظلمها بهذا المصير؟".
على نحوٍ مشابه، تعيش سجى زياد (24 عامًا)، وهي متخرجة من قسم الهندسة المعمارية، صراعًا مريرًا مع الضغوط العائلية المتكررة لإجبارها على الزواج. تتأمل الوجوه من حولها: شقيقتها التي لا تجد المال لإطعام طفلها الرضيع، وصديقتها التي لم يكتمل زواجها سوى شهرين قبل أن تصبح أرملة. تقول بمرارة: "لماذا يريدونني أن أعيش هذا الخوف؟".
تدهور وضع أسرتها الاقتصادي جعل تزويج الفتيات يبدو بالنسبة لهم مخرجًا من الأزمة. أربع بنات في بيت واحد تعني عبئًا مضاعفًا، كما تقول سجى، وقد جرى تزويج اثنتين منهن خلال الحرب، بينما تتمسك هي برفضها القاطع: "لا زواج وسط الفقر والنزوح".
هذا الموقف لا ينفصل عن سياق أوسع، فبحسب ورقة بحثية صادرة عن مركز شؤون المرأة في غزة، كثير من العائلات تلجأ إلى خيار تزويج بناتها خلال الحرب ليس بدافع الرغبة، بل نتيجة القهر والحرمان، إذ يخفّف عبء الإعالة في ظلّ غياب الدخل واستمرار النزوح المتكرر.
وتشير الورقة إلى أنّ بعض الأسر دفعتها الحاجة الماسة إلى اعتبار المهر وسيلة لتأمين الغذاء أو سداد الديون، فيما اعتقد آخرون أن الزواج قد يشكّل "درعًا اجتماعيًا" يحمي الفتيات من انعدام الخصوصية أو خطر المضايقات في مراكز الإيواء.
وسط هذه المعادلات القاسية، تتمسك سجى بحقها في الاختيار، مدركة أن ما يُسمى "الحماية عبر الزواج" ليس سوى شكل آخر من أشكال العنف الاجتماعي الذي يسرق مستقبل الفتيات، ويحوّل حياتهن إلى ساحة خوف جديدة.
المختصة النفسية نورا أبو عيطة، التي تلتقي عشرات الشبان والفتيات في جلساتها، إن الخوف من الزواج بات حاضرًا بوضوح في أحاديثهم اليومية. وتشير إلى أنّ ما بين 40- 50 في المئة، من الحالات التي تابعتها تؤجل فكرة الزواج حتى يتحقق حدّ أدنى من الأمان والاستقرار.
وترى أبو عيطة أن غياب الأمن الشخصي والمستقبل الغامض هما العاملان الأكثر تأثيرًا في عزوف الشباب عن الزواج، فالشاب أو الفتاة يترددان في تكوين أسرة في بيئة تتسم بانعدام الاستقرار، يضاف إلى ذلك الوضع الاقتصادي المنهك: بطالة مرتفعة، أسعار متصاعدة، وانعدام مصادر دخل ثابتة تجعل فكرة الالتزام بمتطلبات الزواج شبه مستحيلة.
وتوضح أن الخوف من فقدان الشريك في أي لحظة يشكّل دافعًا آخر للتراجع عن الزواج. ومع مستويات مرتفعة من التوتر والقلق والاكتئاب، يبدو الزواج بالنسبة لكثيرين قرارًا ثقيلًا لا يحتملونه.
ويؤكد خبراء الاجتماع أن هذه المخاوف لا تقتصر على بعدها النفسي الفردي، بل تمتد إلى البنية الاجتماعية برمّتها؛ فالحروب الممتدة تُعيد صياغة أنماط الزواج والإنجاب، وتجعل العزوف عن الزواج تحوّلًا نفسيًا واجتماعيًا متجذرًا، لا مجرد توقف مؤقت فرضته الحرب.
لكن لهذه المواقف ثمنًا باهظًا، كما تضيف أبو عيطة. فالفتيات يزداد شعورهن بالقلق مع مرور الوقت خشية فقدان فرص الزواج، بينما يُواجه الرجال إحساسًا بالعجز لعدم قدرتهم على توفير بيت أو دخل، ما يولّد لديهم شعورًا بالدونية والفشل.
في غزة، حيث يُرجأ كل قرار مصيري خشية غارة أو نزوح جديد، يبقى الزواج عالقًا بين ضغط العائلة ورفض الشباب. والسؤال الذي يلوح في الأفق: هل هذا العزوف مجرّد توقف مؤقت فرضته الحرب، أم بداية لتحوّل نفسي–اجتماعي طويل الأمد يعيد تشكيل الملامح الديموغرافية للقطاع؟
الزواج تحت النار