بمجرد أن تطأ قدمك مدخل سوق الزاوية، وسط مدينة غزة، من الحيز المجاور لسوق القيثارية القديم، حتى يستقبلك هناك صوت ماكينات تصليح الأحذية الرتيب، مصدراً صوت أزيز مزعج للبعض، إلا أنه يُعد فرحاً وإيذاناً بقدوم العيد للطبقات المعدمة و متدنية الدخل.
ملامح المكان لم تتغير منذ نشأته، ولم يختلف مشهد الإسكافي كثيراً رغم تبدل الأجيال التي تعمل بهذه المهنة، تجدهم جميعاً برقاب وظهور محنية فوق آلات الخياطة المشحمة باللون الأسود، تنتقل نظراتهم وأيديهم في ذات الاتجاه حيث فردة الحذاء المراد إصلاحها، في تناسق واضح مع تحريك القدم على دواسة الآلة السفلية.
الإسكافي "باسل حبوب" عَبْر عن أهمية مهنته، قائلاً "هذه المهنة لا يمكن أن تندثر لأنها مرتبطة كثيراً بالأوضاع الاقتصادية السيئة في القطاع، ففي آخر أيام شهر رمضان المبارك يزيد الإقبال على عملنا لتصليح الأحذية، إلى جانب الحقائب النسائية".
يتوقف حبوب عن الحديث قليلاً، يتفحص فردة حذاء أنهى العمل منها، وينظف زوائد الخيوط العالقة فيها ثم يتابع وهو يمسح آثار الزيت عن يديه: "بنحط كل جهدنا لإصلاح أحذية الزبائن ..فنحن من ناحية نخفي عيوبها، ومن ناحية ثانية نصنع الفرحة على وجوه الزبائن".
تفوح رائحة الزيت المستخدم في تسهيل عمل ماكينة الإسكافي، وتزيد حدتها كلما أزداد تعامد الشمس على أرضية الدكاكين التي فاضت بزوائد الجلود وبقايا الخيوط و أربطة الأحذية.
تحضيراً للموسم، ولزيادة الطلب على عملهم، استعد حبوب مسبقاً وأقرانه لاستقبال العشرات وربما المئات من الزبائن، ومن مختلف الفئات، لا سيما فئة الموظفين، بعدما كان عملهم مقتصراً على فئة الفقراء.
على أثر ذلك وفر الإسكافي كميات أكبر من احتياجات العمل كالخيوط والصمغ والجلود. وقال: "بفعل الفقر والحصار أضيفت فئة جديدة إلى فئة الزبائن.. هي فئة الموظفين".
ارتبطت مهنة الاسكافي قديماً بكبار السن، الذين كانوا يصنعون الأحذية الجديدة، لكنها تغيرت قليلاً مع مرور الزمن وانتشار المصانع والآلات الحديثة، حيث اقتصر عملهم على الإصلاح والرتق، وورث العمل فيها شباب حديثي تخرج من الجامعة ولم تتاح امامهم فرص توظيف، حيث بلغت نسبة البطالة في القطاع قرابة الـ 50% بحسب بيان الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
الخمسينية "أم نسيم" تجلس على كرسي بلاستيكي داخل الدكان القديم تدارى نفسها من أشعة شمس الظهيرة، حاملة كيس مليئ بالأحذية القديمة، وبيدها الأخرى فردة حذاء نسائي تشرح للشاب عن الأعطاب التي أصابته وتسأل عن كيفية إصلاحها دون أن يشوه سطح الحذاء .
تقول أم نيسم لـ آخر قصة "قبل 3 أيام أحضرت جزءا واليوم جمعت الباقي لأصلحه قبل الزحمة، أرخص وأوفر، زوجي ما بشتغل، وما بنقدر نكسي الأولاد الثمانية كل سنة أحذية جديدة، ممكن كل سنتين مرة".
ينتقل العامل الثلاثيني الذي بدت آثار التعب على وجهه، بين الماكينة الطولية الخاصة بإصلاح الأحذية الجلدية، والماكينة التقليدية المخصصة لرتق القماش، وتتنقل معه أنظار الزبائن، كلٌ ينتظر دوره ويتفحص أحذيته بابتسامة بعد إصلاحها وتهيئة مظهرها.
أما الثلاثينية سميرة، قررت إضافة اكسسوار فائض لديها على حذاء ابنتها الأسود القاتم، ليضفي عليه نوعاً من بهجةٍ ينشدها الأطفال، فيما حولت أربطة حذاء طفلها، من البني إلى الأحمر، كما أعادت تمكين الجزء السفلي منه بذات اللون، وبدت شديدة التدقيق أمام ماكنة الاسكافي الطولية وهي تطلب لون الخيط الذي تريد، تقول "اشتريت لأَولادي ملابس بألوان زاهية، ولم أتمكن من شراء أحذية جديدة".
قد يبدو للبعض أنّ إرتداء حذاء جديد في كل عيد أو مناسبة رفاهية مفقودة في قطاع غزة، وربما ذلك صحيح، فوفقاً لآخر إحصاءات تقدر نسبة الفقر في القطاع بـ 53%، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، الأمر الذي زاد من حجم إقبال المواطنين على رتق وتصليح أحذيتهم القديمة.
بالجوار تجد كشكاً قديماً، عُلق في سقفه المقبب عدداً من الأحذية وعلى مدخله عدداً آخراً يحتاج إلى التصليح، حيث يجلس شاب ضعيف البنية خلف ماكينة خياطة صغيرة، يُصلح حذاءً رجالياً، بجواره جلس الستيني "أبو اسكندر" بملابس رسمية مهندمة، ينتظر أن يرى حذائه بعد خياطته.
يقول "أبو اسكندر" لـ "آخر قصة"، "عندي راتبي ووضعي أحسن من غيري، لكن إلي بقدر أصلحوا ما برميه ولا بشتري غيره، في أولويات ووضعنا الاقتصادي صعب".
وبحسب الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور سمير أبو مدللة، فإن الأوضاع الاقتصادية والحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع والاستقطاعات التي طالت رواتب الموظفين العموميين، جميعها أثرت على الحالة الاقتصادية وضاعفت نسب الفقر والبطالة، إلى نحو غير مسبوق.
ويرى أبو مدللة أن السوق المحلي يفيض بالبضائع المستوردة والحديثة والتي تزيد عن حاجة السكان أحياناً، ولكن سوء الأوضاع الاقتصادية دفعت بالكثير من التجار لجلب بضائع أقل سعر وجوده، لتتناسب مع دَخْل المواطنين.
وقال إنه من الطبيعي في ظل الوضع الحالي، توجه الغالبية من المواطنين لتصليح أحذيتهم وملابسهم القديمة، أو اقتناء البضائع من سوق البالة، خاصة في المواسم.